أشعر أن الأحداث أكبر من قدرتنا على الكلام والوصف .. ومن لم تهزه الحوادث؛ لا ينتفع بكلام .. وليس أمام أمتنا إلا أن يحسن كل واحد فيما أقامه الله فيه، حيث يُسأل كل راع عن رعيته؛ فمن أقامه الله في مقام خير وعطاء وإصلاح فليستمسك به، ومن لا؛ فليجد .. لأن الطريق طويل، وكل كلمة، وتربية وتعليم، وإصلاح فساد، وأمر بالمعروف= نافعة؛ إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.
.
الإحساس بالعجز ليس من شيم الرجال؛ فالرجال يعملون ولا يصيحون، وقد يستغرق أساس البناء من الجهد أكثر مما يستغرق البناء، وما لا يُرى من العمل أشد مما يرى عند ذوي الهمة والهم.
.
أما الباحثون عن الاستعراض فهم أكثر الناس مللا، وأشدهم نزقا، وأسرعهم فرارا ..
.
من يبحث عن مخرج فليبدأ بنفسه؛ ثم بما أقامه الله فيه، وإلا فنحن أصحاب دعاوى كاذبة، ومن علم نفسه كاذبة؛ فليقف سائلا الله أن يرزقه مقام الصادقين، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
.
في كل ميدان معركة، وفي كل مجال عمل، والفارغون فقط هم الذين يطلبون أكابر الأعمال قبل إحكام صغارها، ومن لا يستطيع قراءة جملة كيف يتقن كتابا، فضلا عن أن يكون عالما في فن من الفنون!
.
لا شك أن أمتنا في فترة من أشد فترات ضعفها، والمتربصون بها في أشد فترات علوهم؛ ولكن لا ننسى أن أكثر الأوقات علوا ربما تكون بدايات الضعف والانحلال؛ فلا تهنوا ولا تحزنوا.
.
نحن أمة صاحبة رؤية، ولها تاريخ عريق في صناعة الحضارة، وليس أصدق من الواقع إذا وقع؛ لذا فأول خطوات الإصلاح أن يعلم الناس أن لنا رسالة، وأننا أصحاب هوية، وأنه يزري بنا التبعية والهوان، وأن نعيش على هامش التاريخ، وأن نزحزح من الجغرافيا كلما بدا لغيرنا زحزحتنا، فلا أقل من أن نكون رأسا برأس وقدما بقدم؛ وليس كل الرؤوس سواء، ولا قدم اغبرت في سبيل الخير والحق ككقدم اغبرت في سبيل الاستعلاء في الأرض ونهب الثروات واستغلال الشعوب!
.
الهزيمة تبدأ من الداخل، والصلابة تبدأ من الداخل، وإرادة التغيير تبدأ من الداخل؛ فإذا خرب الداخل فما تشهده في الخارج ليس سوى مظاهر لهذا الخراب!
.
نبئت قبل خمس سنوات بما يحدث الآن من بعض من أعتقد فيه الصلاح، وأن الملاحم الكبرى على وشك الالتئام، و"أن الأمر العظيم الذي يقع في الأرض المباركة ، وما يحصل في لبنان، وما سيحصل في مضيق باب المندب، سيؤدي إلى صدام حتمي بين أمريكا وإيران .. سترد إيران بضرب دول الخليج، وسيكون شرارة الحرب الكبرى التي ستنتهي إلى هلكة الفرس ثم العرب على إثرهم، ولا فارس بعدها، وفي الأثناء أمور محزنة تقع في مصر وتركيا، ثم تؤول إلى فرح وأن دورهما في نصر الإسلام كبير، وأن الجزائر تحمل للأمة مبشرات".. هذا ما أخبرت به بمعناه، والله أعلم بحقيقة الحال.
.
ومن يتابع الأحداث بعين البصيرة يعلم في كل حدث صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي علمنا ضمن ما علمنا علم أشراط الساعة أو "فقه التحولات"، وأن الدنيا صائرة إلى ما أراد الله لها، وأن الفتن يرقق بعضها بعضا، حتى تدع الحليم حيران، فمنها فتن لا تدع بيتا إلا دخلته، ومنها فتن علامتها الهرب ومغادرة الأوطان، ومنها فتن علامتها استباحة الدماء، ومنها فتن علامتها استباحة الدماء والأعراض!
.
ولست أرجو بكلامي هذا تخويف الناس ولا التنبؤ بالغيب، بل هذا ما قال رسوله، وصدق الله ورسوله، بل المراد الاستعداد، والاستعداد يكون بتقوية النفس، حتى إذا رأت منكرا علمت أنه منكر، وإذا رأت شرا علمت أنه شر وإن بدا في ثوب خير، وإن رأت رجلا يعظ الناس وهو شيطان علمت أنه شيطان، وإن رأت فتنا كقطع الليل استعصمت بما تعرف من ثوابت الدين، وتركت ما لا تعرف، وإن رأت إقبال الناس جميعا على الشر لم تتأثر، فأنت الجماعة وإن كنت وحدك، وإن رأت قتلا قالت: كن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل، وإن رأت مهديا كانت أول جنوده.. وإن لم يقع ذلك كله وسَلِمَتْ، أو قُبِضت قبل البلايا والمحن؛ بقي في الميزان، ونية المرء خير من عمله!
.
كنت نويت الاكتفاء بالكلمات الأولى التي بدأت بها من كون "الأحداث أكبر من قدرتنا على الوصف، ومن لم تهزه الحوادث؛ لا ينتفع بكلام"؛ لكنني كالعادة وجدت نفسي أتكلم فالنفس ممتلئة، وتجد بالكلام سلوى، ثم لعلني أجد من ينتفع؛ فما يزال البيان سحرا، وما تزال الكلمة تهز القلوب وتدفع للعمل.
.
اللهم يسر للأمة أمر رشد!
أ. أحمد الدمنهوري.