"اخلفني في قومي"
لم يتكرر قصص موسى عليه السلام في القرآن رتابة، ولم يسهب البيان القرآني في معاناة موسى مع قومه عبثا، معاذ الله وتنزه وتعالى قوله عن العبث، بل كانت كل رواية من هذا القصص تحمل صورة لا تحملها غيرها من الآيات، فلا تكتمل الصورة عن تلك الأمة وأنبيائها إلا بتجميع الصور جميعا، وهكذا ليكون في قصصهم عبرة لا تسلية، وليكون في تفاصيلهم دليلا لمن بعدهم، وليتحقق قوله تعالى "ما فرطنا في الكتاب من شي".
فما هو الدرس المستفاد بين ذهاب موسى لميقات ربه ومآبه بعد فتنة قومه؟ إنه درس الاستخلاف، وتولية الأمير لمن يسد مكانه ويملأ فراغه ويقوم بمهمته غير منقوصة في غيابه، وما لهذا من حق وما عليه من واجب؛ فما ترك موسى قومه حتى استأمن عليهم من يسد مكانه ويقوم بمهمة النبوة، وما تركهم لهواه ومشتهاه وشأن دنياه، بل لميقات ربه وفي طلب المنهاج، ورغم ذلك، وهم حديثو عهد برؤية المعجزات والآيات البينات في انشقاق البحر ونجاتهم وهلاك عدوهم، إلا أن نبي الله لم يتركهم بلا دليل يرشدهم ويردعهم "وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ".
لقد استخلف عليهم هارون، ولكنه لم يترك هارون بلا دليل، بل رسم له خارطة الطريق، وأراه الصراط المستقيم، وهداه النجدين فقال "وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين"
وكان حقا عليه إذ خلع على أخيه عبء الرسالة الثقيل، وحمل فوقه الأمانة التي تشفق منها الجبال، وفوض إليه أسمى التكاليف وأجل المهام، فقد حق عليه أن يسدي إليه من النصح ما يهون عليه حملها ويخفف عنه وقعها ويعينه في إمضائها، وقد فعل عليه السلام فأمره بالإصلاح وباجتناب الفساد والمفسدين.
ولهذا نرى أول بوادر غضب موسى عندما رجع إلى قومه غضبان أسفا تنصب على أخيه هارون، قبل أن يسأل الضالين فيم ضلوا وقبل أن يسأل المضلين لم أضلوا، بل هرع إلى أخيه الذي ترك له ميراث النبوة ليكون أول من يحاسب عن ضلالة القوم وإفساد المفسدين:
"وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ "
فما هو كفل هارون النبي من عمل السامري الكافر؟ وما حظه وهو يعبد الله وحده من ذنب قومه الذين عبدوا العجل!
ربما كان التردد في الأخذ على يدهم والبطش بالمفسدين، وهنا تكمن مهمته كخليفة على قومه، فقد كان عليه أن يأخذ الكتاب بقوة، وأن يشتد على الأمانة ويأخذها بالعزيمة، وألا يعتبر نفسه وريثا بل رئيسا، فقد تفرق الأسباط من حيث أراد هارون أن يجمعهم بلينه وأناته، وقد سقطت أمانة موسى من حيث أراد هارون حفظها هو ينظر إليها مكتوف اليدين، فكانت فتنة العجل تعصف بالقوم وكان الألوف يخرجون من دين الله أمام عين هارون الذي لم يكن يجرؤ على ارتجال عمل خشية مخالفة موسى فوقع من المحظور أشده ومن البلاء أعظمه؛ وما ذاك إلا أن هارون كان يتقلد شكلية الإمارة في غياب موسى وكان يعتبرها لبوسا ثقيلا سيعاوده خلعه فور عودة نبي الله موسى، فلم يشأ أن يحدث شيئا ولم يستطع أن يمنع ما أحدثه القوم.
وما بين ذهاب موسى ووصاية هارون وفتنة السامري وعودة موسى غضبان إلى قومه نستخلص درسا عظيما عن الاستخلاف وما يلزمه من الحنكة، فقد يتطلب القرار عزما لبلوغ الخير الكثير، وقد يتطلب الموقف حزما لمنع الشر المحض، ولزجر الفتنة الموشكة، أما التردد فمؤداه فوات الخيرات ووقوع الموبقات، وما أحسن ما قيل:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى .
@aleesa71