مراهقو حفلات التواصل :
——————————
في ختام الجزء الثاني من سيرة الكاتب المصري جلال أمين "رحيق العمر" سطر فصلًا مشجيًا مبكيًا وكأنه خلاصة حياة سماه "لماذا تخيب الآمال"، ضمنه معانٍ مؤثرة، أحب لكل شاب وشابة قراءته؛ منها أنه حكى عن لذة الوهم وأهميته لبقاء السعادة، تحدث عن عادة هدايا الأطفال في نهاية العام وارتباطها بوهم "الأب كريسماس" أو سانتا كلوز، وكيف يتعاطى الأطفال مع وهم الخيال، وألم اكتشاف الحقيقة، ووجود من يربط النصج بإفساد اللحظات السعيدة للآخرين؛ يقول :
"وقد لاحظت أكثر من مرة أن الذي يكتشف الحقيقة يحاول أن ينقل اكتشافه إلى الأطفال الأصغر سنًا، مفاخرًا بأنه لم سعد طفلًا غريرًا، بل أصبح يعرف حقيقة الأب كريسماس كاملة، أي يعرف أنه من صنع الخيال ولا وجود له ... لاحظت أيضًا أن هؤلاء الصغار -لحسن الحظ- كانوا في العادة يرفضون بشدة تصديق الحقيقة، ويفضلون الاستمرار في تصديق ما يسمعونه عن هدايا الأب كريسماس ... وكأنهم يريدون أن يطيلوا إلى أقصى مدى ممكن تلك الفترة السعيدة التي يستسلمون فيها لهذا الوهم الجميل؛ وذلك حتى يصبح هذا الاستسلام للوهم مستحيلًا" [1]
هذا المراهق المشاغب الذي يظهر نضجه بإفساد لذة الآخرين موجود بيننا؛ تراه في تعليقات ثقيلي الأرواح على تغريدات/منشورات الأفراح؛ يعلق على خبر خطوبة أو عقد قران بقوله "مسكين أنت؛ كلها لحظات وتكتشف حقيقة النكد الذي ستعايشه"، ويأتي عند من شارك الناس صور تخرجه ليسطر تعليقًا معناه : "الشهادات لم تعد تنفع، سبقك ألوف إلى طريق البطالة"، ثم يميل نحو من كتب سطورًا تعبر عن مزاجٍ شاعري لحظي ليدمغه بدروسه الحكيمة من قبيل "لم ترَ شيئًا بعد؛ أفق من وهمك".
لا أعرف أشد بؤسًا من هؤلاء الذين يقلقهم وجود ضحكة لا تنتمي لهم، يشعرون بواجب أخلاقي يؤزهم لتحكيم سياقاتهم على الآخرين، هب أن شخصًا أنزل صورته منتظرًا اعترافًا اجتماعيًا بقبول ملامحه؛ أي نار تتقد في صدر مراهق حفلات التواصل حين يرى الناس تتوالى على الثناء وتطييب الخاطر .
قرأتُ أوراقًا اجتماعية/لسانية عن ظاهرة سماها مايكل ويش "انهيار السياق" context collapse؛ وقال أنها أكثر ما يهدد استقرار وسائل التواصل، خلاصتها أننا حين ننشر نشعر أننا نحتدث أصدقاءنا الذين يفهموننا، بينما في الحقيقة الأمر مختلف؛ رسالة واحدة لمتلقين متعددي الخلفيات والسياقات، بعضهم يظن نفسه محور الكون، وأن قضاياه التي تشغله لابد أن تشغلك، وأن ذوقه يلزمك، وعاداته تحكمك؛ وإلا أفسد عليك لحظاتك، وارتدى ثوب مراهق حفلات التواصل الذين يفسد اللحظات؛ صحيح أني على المستوى الخاص لا أشارك مناسباتي على وسائل التواصل؛ وهي طبيعة شخصية محضة لا أشرعنها ولا أعقلنها؛ لكني لم أشعر يومًا أن سياقي حاكم على لحظات الفرح/الحزن/الفخر المعلنة هنا، وأود لو غالبت خجلي لأهنئ كل مسرور، وأواسي كل مكروب، وأندمج في الحالات الشعورية الافتراضية لكل من تقع عيني على إشارته .
لقد تجاوزنا للأسف مرحلة مايكل ويش؛ نحن الآن أمام تحطيم السياق لا انهياره في الحقيقة؛ والسبب ادعاء النضج من مراهقي حفلات التواصل .
————-
[1] رحيق العمر ص420 .
——————————
في ختام الجزء الثاني من سيرة الكاتب المصري جلال أمين "رحيق العمر" سطر فصلًا مشجيًا مبكيًا وكأنه خلاصة حياة سماه "لماذا تخيب الآمال"، ضمنه معانٍ مؤثرة، أحب لكل شاب وشابة قراءته؛ منها أنه حكى عن لذة الوهم وأهميته لبقاء السعادة، تحدث عن عادة هدايا الأطفال في نهاية العام وارتباطها بوهم "الأب كريسماس" أو سانتا كلوز، وكيف يتعاطى الأطفال مع وهم الخيال، وألم اكتشاف الحقيقة، ووجود من يربط النصج بإفساد اللحظات السعيدة للآخرين؛ يقول :
"وقد لاحظت أكثر من مرة أن الذي يكتشف الحقيقة يحاول أن ينقل اكتشافه إلى الأطفال الأصغر سنًا، مفاخرًا بأنه لم سعد طفلًا غريرًا، بل أصبح يعرف حقيقة الأب كريسماس كاملة، أي يعرف أنه من صنع الخيال ولا وجود له ... لاحظت أيضًا أن هؤلاء الصغار -لحسن الحظ- كانوا في العادة يرفضون بشدة تصديق الحقيقة، ويفضلون الاستمرار في تصديق ما يسمعونه عن هدايا الأب كريسماس ... وكأنهم يريدون أن يطيلوا إلى أقصى مدى ممكن تلك الفترة السعيدة التي يستسلمون فيها لهذا الوهم الجميل؛ وذلك حتى يصبح هذا الاستسلام للوهم مستحيلًا" [1]
هذا المراهق المشاغب الذي يظهر نضجه بإفساد لذة الآخرين موجود بيننا؛ تراه في تعليقات ثقيلي الأرواح على تغريدات/منشورات الأفراح؛ يعلق على خبر خطوبة أو عقد قران بقوله "مسكين أنت؛ كلها لحظات وتكتشف حقيقة النكد الذي ستعايشه"، ويأتي عند من شارك الناس صور تخرجه ليسطر تعليقًا معناه : "الشهادات لم تعد تنفع، سبقك ألوف إلى طريق البطالة"، ثم يميل نحو من كتب سطورًا تعبر عن مزاجٍ شاعري لحظي ليدمغه بدروسه الحكيمة من قبيل "لم ترَ شيئًا بعد؛ أفق من وهمك".
لا أعرف أشد بؤسًا من هؤلاء الذين يقلقهم وجود ضحكة لا تنتمي لهم، يشعرون بواجب أخلاقي يؤزهم لتحكيم سياقاتهم على الآخرين، هب أن شخصًا أنزل صورته منتظرًا اعترافًا اجتماعيًا بقبول ملامحه؛ أي نار تتقد في صدر مراهق حفلات التواصل حين يرى الناس تتوالى على الثناء وتطييب الخاطر .
قرأتُ أوراقًا اجتماعية/لسانية عن ظاهرة سماها مايكل ويش "انهيار السياق" context collapse؛ وقال أنها أكثر ما يهدد استقرار وسائل التواصل، خلاصتها أننا حين ننشر نشعر أننا نحتدث أصدقاءنا الذين يفهموننا، بينما في الحقيقة الأمر مختلف؛ رسالة واحدة لمتلقين متعددي الخلفيات والسياقات، بعضهم يظن نفسه محور الكون، وأن قضاياه التي تشغله لابد أن تشغلك، وأن ذوقه يلزمك، وعاداته تحكمك؛ وإلا أفسد عليك لحظاتك، وارتدى ثوب مراهق حفلات التواصل الذين يفسد اللحظات؛ صحيح أني على المستوى الخاص لا أشارك مناسباتي على وسائل التواصل؛ وهي طبيعة شخصية محضة لا أشرعنها ولا أعقلنها؛ لكني لم أشعر يومًا أن سياقي حاكم على لحظات الفرح/الحزن/الفخر المعلنة هنا، وأود لو غالبت خجلي لأهنئ كل مسرور، وأواسي كل مكروب، وأندمج في الحالات الشعورية الافتراضية لكل من تقع عيني على إشارته .
لقد تجاوزنا للأسف مرحلة مايكل ويش؛ نحن الآن أمام تحطيم السياق لا انهياره في الحقيقة؛ والسبب ادعاء النضج من مراهقي حفلات التواصل .
————-
[1] رحيق العمر ص420 .