لا تحقرنّ من المعروف شيئا..
رأيتُ من كان مترددا بين التدين والانحلال، فإذا كلمة عابرة قلبت حالَه كله، وألزمته باب الدين حتى صار من أبطاله ورجاله!
ورأيتُ من كان مترددا بين الثورة والقعود، فإذا موقف واحدٌ من أحدهم، أنزله من بيته وهَدَم عليه ترددَه، فإذا هو من رجال الثورة وجرحاها!
ورأيتُ من لم يكن يملك إلا الصبر على موقفه، والصمود على رأيه، يُسام منه لا أن يتكلم بالباطل بل أن يسكت عن الباطل إذا قيل بحضرته، فيأبى، فتفشل بذلك خطة تدجين لمئات وآلاف المسلمين!
وجلستُ يومًا مجلسا بين عدد من الدعاة، فرسخ في ذهني منذ ذلك الوقت تعجب أحدهم من أمرٍ كم تكرر معه، يقول: كلما سألتُ واحدًا كيف بدأتَ التزامَك بالدين ذَكَر لي موقفا بسيطا عابرا، حتى أولئك الذين أوليتُهم رعايتي وأسهرتُ ليلي أفكر في السبيل إلى دعوتهم واجتذابهم لطريق الدين، لم يؤثر فيهم من هذا كله إلا موقفا مني لم آبه له لكنه كان فارقا لهم.
ولقد جربتُ من نفسي أن بعض منشورات مواقع التواصل الاجتماعي تغير خريطة ليلي أو يومي أحيانا، فرب كلمة خير ألقاها صاحبها أعقبت خيرا كثيرا فيما وراء البحار، وربَّ كلمة شر ألقاها صاحبها لم يحفل بها أعقبت شرًّا كثيرا..
من قال إن المجهولين لا يصنعون التاريخ؟!
مات رجل في طوس، وترك أبناءه جوعى، لم يجدوا مكانا يأكلون فيه إلا المدرسة، فذهبوا يتعلمون لا للعلم بل لسدّ الجوع، نعم.. ذلك يوم أن كانت الأوقاف الإسلامية تنفق على المدارس والعلم والعلماء، وإذا باليتيم الذي دخل إلى المدرسة ليسدّ جوعه قد صار بعد سنين: حجة الإسلام أبا حامد الغزالي، أحد أعلام الدنيا وأحد مشاهير الإنسانية كلها!!
ترى ما اسم ذلك الرجل الذي أوقف هذا الوقف؟!.. لا أحد يعرف!
وفي زماننا هذا، كان يتيمٌ آخر لا يدري ماذا يفعل بعد أن حفظ القرآن، يريد أن يدخل الأزهر، ولكن الأزهر -بعد زمنٍ من سيطرة الإنجليز- قد تضعضع أمره، فالعلم فيه صعب، والمشوار طويل، ويحتاج الطالب فيه أن ينفق على نفسه، ثم لن يجد لنفسه عملا.. وظل صاحبنا اليتيم سنين لا يدري ماذا يفعل، ولا يستطيع أن يتعلم حرفة.. حتى كان جالسا ذات يوم فمرَّ بهم شيخ مجهول، فأعجبه حفظ الفتى اليتيم للقرآن، فألحَّ على عمّ الفتى أن يدخله الأزهر وليترك الباقي لله.. فاقتنع العمّ بعد صدود!.. وصار هذا اليتيمُ فقيه عصره، وهو يوسف القرضاوي حفظه الله!
ولقد قرأتُ في مذكرات وزراء الحرب والداخلية والمخابرات الأمريكية كيف أن أشعث أغبر مدفوع بالأبواب يختبيء في الكهوف والمغارات والبوادي قد تكهربت له أجهزة وانعقدت له اجتماعات وتغيرت له سياسات!
ومن ذا الذي ينسى سليمان الحلبي.. المجهول المغمور ذي الثياب الرثة، يستطيع أن يقتل كليبر، أقوى رجل في جيش الحملة الفرنسية! الذي كان أقوى جيش في الشرق آنذاك!
ومثله خياط بسيط اسمه مصطفى شكري العشو، استطاع أن يوقف قطار التطبيع العلني نحو ثلاثين سنة حين نال من ملك الأردن عبد الله بن الحسين، فارتعب لمصيره كل القادة العرب، فلما تجرأ عليها السادات بعد هذه الثلاثين برز له ضابط صغير آخر فأوقف قطار التطبيع العلني لأربعين سنة أخرى.. ولا يزال زماننا ينتظر مثلهم!
لا تحقرن من المعروف شيئا.. ولو أن تلق أخاك بوجه طلق!
فالوجه الطلق، قد يُجِّمل الحياة في عين أخيك يوما أو شهرا، وشقِّ التمرة قد يحفظ حياةَ أحدهم دهرا..
ولقد حدثني من كان يتضور جوعا ويبيت في المساجد والشوارع أنه كأنما وجد الجنة حين جاء واحد من أهل المسجد بطعام لأصحابه بعد صلاة الفجر.. فمكث زمنا لا طعام له في يومه إلا ما يأتي به هذا الرجل صباح كل يوم!
لا تحقرن من المعروف شيئا.. ولقد كان الطبري يُلام في إجهاده نفسه فكان يقول: لعل الكلمة التي تدخلني الجنة لم أكتبها بعد!
لا تحقرن من المعروف شيئا، وانظر في قصص الذين أسلموا وفي قصص الذين تابوا تجد عجبا عجابا لا ينفد منه العجب.. تجد هناك أولئك المجهولين الذين يصنعون التاريخ.. البقَّال البسيط الذي أنفق على من صار رئيسا في زمن يتمه وحاجته، والبائع الجوَّال الذي أمسك المصحف أن يعطيه إلى قسٍّ فكان هذا أول إسلامه، وسائق سيارة الأجرة الذي بكى يوما لأنه لا يستطيع ردّ الشبهات عن دينه فأحرقت دموعه نفس شابٍّ وأشعلت همته ليكون علما في مقارعة الإلحاد والتنصير.
لا تحقرن من المعروف شيئا.. فإن الجبال حصوات! وإن العاصفة ذرات! وأن البحار قطرات!
لقد رأيتُ يوما وأنا في المترو، من يدعو إلى الله ويجتهد في التعرف على من بجواره، ويقاوم صدود الناس ونفورهم عنه، فما هو إلا أن يفتح الله له القلوب.. المفاجأة أنه كان أصمَّ وأبكم.. كان يدعو بلغة الإشارة!!
لا أزال أذكره رغم مرور السنين.. الرجل الذي لم يقصّر في دعوة راكب جلس إلى جواره في زمن دقائق، مع عجزه عن الكلام.. لقد أحقرني نفسي، وعلمني أن لا تحقرن من المعروف شيئا!
رأيتُ من كان مترددا بين التدين والانحلال، فإذا كلمة عابرة قلبت حالَه كله، وألزمته باب الدين حتى صار من أبطاله ورجاله!
ورأيتُ من كان مترددا بين الثورة والقعود، فإذا موقف واحدٌ من أحدهم، أنزله من بيته وهَدَم عليه ترددَه، فإذا هو من رجال الثورة وجرحاها!
ورأيتُ من لم يكن يملك إلا الصبر على موقفه، والصمود على رأيه، يُسام منه لا أن يتكلم بالباطل بل أن يسكت عن الباطل إذا قيل بحضرته، فيأبى، فتفشل بذلك خطة تدجين لمئات وآلاف المسلمين!
وجلستُ يومًا مجلسا بين عدد من الدعاة، فرسخ في ذهني منذ ذلك الوقت تعجب أحدهم من أمرٍ كم تكرر معه، يقول: كلما سألتُ واحدًا كيف بدأتَ التزامَك بالدين ذَكَر لي موقفا بسيطا عابرا، حتى أولئك الذين أوليتُهم رعايتي وأسهرتُ ليلي أفكر في السبيل إلى دعوتهم واجتذابهم لطريق الدين، لم يؤثر فيهم من هذا كله إلا موقفا مني لم آبه له لكنه كان فارقا لهم.
ولقد جربتُ من نفسي أن بعض منشورات مواقع التواصل الاجتماعي تغير خريطة ليلي أو يومي أحيانا، فرب كلمة خير ألقاها صاحبها أعقبت خيرا كثيرا فيما وراء البحار، وربَّ كلمة شر ألقاها صاحبها لم يحفل بها أعقبت شرًّا كثيرا..
من قال إن المجهولين لا يصنعون التاريخ؟!
مات رجل في طوس، وترك أبناءه جوعى، لم يجدوا مكانا يأكلون فيه إلا المدرسة، فذهبوا يتعلمون لا للعلم بل لسدّ الجوع، نعم.. ذلك يوم أن كانت الأوقاف الإسلامية تنفق على المدارس والعلم والعلماء، وإذا باليتيم الذي دخل إلى المدرسة ليسدّ جوعه قد صار بعد سنين: حجة الإسلام أبا حامد الغزالي، أحد أعلام الدنيا وأحد مشاهير الإنسانية كلها!!
ترى ما اسم ذلك الرجل الذي أوقف هذا الوقف؟!.. لا أحد يعرف!
وفي زماننا هذا، كان يتيمٌ آخر لا يدري ماذا يفعل بعد أن حفظ القرآن، يريد أن يدخل الأزهر، ولكن الأزهر -بعد زمنٍ من سيطرة الإنجليز- قد تضعضع أمره، فالعلم فيه صعب، والمشوار طويل، ويحتاج الطالب فيه أن ينفق على نفسه، ثم لن يجد لنفسه عملا.. وظل صاحبنا اليتيم سنين لا يدري ماذا يفعل، ولا يستطيع أن يتعلم حرفة.. حتى كان جالسا ذات يوم فمرَّ بهم شيخ مجهول، فأعجبه حفظ الفتى اليتيم للقرآن، فألحَّ على عمّ الفتى أن يدخله الأزهر وليترك الباقي لله.. فاقتنع العمّ بعد صدود!.. وصار هذا اليتيمُ فقيه عصره، وهو يوسف القرضاوي حفظه الله!
ولقد قرأتُ في مذكرات وزراء الحرب والداخلية والمخابرات الأمريكية كيف أن أشعث أغبر مدفوع بالأبواب يختبيء في الكهوف والمغارات والبوادي قد تكهربت له أجهزة وانعقدت له اجتماعات وتغيرت له سياسات!
ومن ذا الذي ينسى سليمان الحلبي.. المجهول المغمور ذي الثياب الرثة، يستطيع أن يقتل كليبر، أقوى رجل في جيش الحملة الفرنسية! الذي كان أقوى جيش في الشرق آنذاك!
ومثله خياط بسيط اسمه مصطفى شكري العشو، استطاع أن يوقف قطار التطبيع العلني نحو ثلاثين سنة حين نال من ملك الأردن عبد الله بن الحسين، فارتعب لمصيره كل القادة العرب، فلما تجرأ عليها السادات بعد هذه الثلاثين برز له ضابط صغير آخر فأوقف قطار التطبيع العلني لأربعين سنة أخرى.. ولا يزال زماننا ينتظر مثلهم!
لا تحقرن من المعروف شيئا.. ولو أن تلق أخاك بوجه طلق!
فالوجه الطلق، قد يُجِّمل الحياة في عين أخيك يوما أو شهرا، وشقِّ التمرة قد يحفظ حياةَ أحدهم دهرا..
ولقد حدثني من كان يتضور جوعا ويبيت في المساجد والشوارع أنه كأنما وجد الجنة حين جاء واحد من أهل المسجد بطعام لأصحابه بعد صلاة الفجر.. فمكث زمنا لا طعام له في يومه إلا ما يأتي به هذا الرجل صباح كل يوم!
لا تحقرن من المعروف شيئا.. ولقد كان الطبري يُلام في إجهاده نفسه فكان يقول: لعل الكلمة التي تدخلني الجنة لم أكتبها بعد!
لا تحقرن من المعروف شيئا، وانظر في قصص الذين أسلموا وفي قصص الذين تابوا تجد عجبا عجابا لا ينفد منه العجب.. تجد هناك أولئك المجهولين الذين يصنعون التاريخ.. البقَّال البسيط الذي أنفق على من صار رئيسا في زمن يتمه وحاجته، والبائع الجوَّال الذي أمسك المصحف أن يعطيه إلى قسٍّ فكان هذا أول إسلامه، وسائق سيارة الأجرة الذي بكى يوما لأنه لا يستطيع ردّ الشبهات عن دينه فأحرقت دموعه نفس شابٍّ وأشعلت همته ليكون علما في مقارعة الإلحاد والتنصير.
لا تحقرن من المعروف شيئا.. فإن الجبال حصوات! وإن العاصفة ذرات! وأن البحار قطرات!
لقد رأيتُ يوما وأنا في المترو، من يدعو إلى الله ويجتهد في التعرف على من بجواره، ويقاوم صدود الناس ونفورهم عنه، فما هو إلا أن يفتح الله له القلوب.. المفاجأة أنه كان أصمَّ وأبكم.. كان يدعو بلغة الإشارة!!
لا أزال أذكره رغم مرور السنين.. الرجل الذي لم يقصّر في دعوة راكب جلس إلى جواره في زمن دقائق، مع عجزه عن الكلام.. لقد أحقرني نفسي، وعلمني أن لا تحقرن من المعروف شيئا!