أغلقت قبل قليل جهازي الحاسوب، لا أريد أن أحدّثك كيف شحنته والجو غائم، والمطر (الذي أضحى ضيفًا ثقيلًا على الجميع) منذ ثلاثة أيام حوّل الأرض إلى وحل أغرق فيه أثناء بحثي عن نقطة شحن تستقبلني، فماذا تراه فعل بالخيام ومراكز الإيواء والمكشوفين للسماء.
حسنًا، لماذا أكتب أولًا؟ لا أعلم، هكذا فجأة قررت أن أواجه "الهارد الخارجي" وأقلّب الصور القديمة ومقاطع الفيديو.
ليست خطوة جريئة، بقدر ما أصبحت... لا أعلم ماذا تُسمّى، لكننا ابتعدنا كثيرًا عن تلك الحياة، وعن أماكنها، ورفاقنا فيها.
مثلا: صورة لأطباق من الفواكه الطازجة، قطفها لتوّه حمزة رحمه الله، وقدّمها لنا.
الأشخاص: أبي حفظه الله، كان سمينًا، والآن هو شخص آخر
يحيى: في الجنوب، يطارِد لقمة العيش الصعبة، ولا يجد مهربًا من المطر تحت ظل الخيمة.
حمزة: استشهد. وهو ابن وائل الدحدوح صحفي الجزيرة.
المكان: بيتهم، بالقرب من محور نيتساريم، أي لا يمكن لأحد الوصول إلى هناك، وبالتأكيد صار ساحة من الرمال.
صورة أخرى؟
صديقي محمّد يقرأ وهو في البقالة.
كان محمّد مذبوحًا بسكّين العمل لساعات طويلة، وهو شاب ذو عقيدة سليمة، وقارئ متوسّع في التاريخ، وبشوش المحيّا.
محمّد محاصَر في الشمال الآن، ولا يعلم حاله إلا الله.
والبقالة التي كانت ممتلئة بالحاجيّات والمسليّات والثانويّات، صارت كومة من الركام.
طبق الفواكه ذاك مستحيل، الموت أقرب منه، وباكو العصير أو المقرمشات في بقالة محمد، أيضًا الموت أقرب منه، هذه مستحيلات، يوجد مخدّرات ولا توجد بضاعة البقالة.
صورة ثالثة؟ حسنًا، من بيتنا، السطح أم الشقق؟ غرفتي..؟
غرفتي والخزانة الممتلئة بالكتب، والكتب مرتبة، والملابس غير مرتبة، وبعض الأريكات، وأماكن في الخزانة أضع فيها دائما: بسكويت أو شوكولاتة أو حلوى للأطفال، هذا للضيافة، كنت أملأها دائمًا حتى إذا ما زارني أحد في غرفتي أقوم بتقديم الضيافة له.
خزانتي بالإضافة ل90% من ملابسي فقدتها قبل 6 أشهر تقريبا حينما فجّروا بيتنا لكنه لم يسقط، فلم تعد هناك غرفة، ولا كتب، ولا غيره، بقيت بعض الأعمدة التي وقف عليها البيت فترة ثم ها هم نسفوه بالكامل.
صورة رابعة؟ لا. لكنني مررت على الكثير من الصور، والسنوات، في العمل، في المطعم، على البحر، على سطح المنزل، وكانت حياتي كما هو في الصور 70% في العمل و30% حياة شخصية!
بماذا كنت أفكّر طيلة الوقت؟ بل إنني عند تفكّري بالحرب، أتذكّر هذا: دوام الحال مُحال. وإن الظروف الصعبة التي كنا نتلكّع منها، ولا يسرّنا حدوثها، هي تافهة جدا أمام هذه الظروف، رغم أنني كنت كثيرا ما أقرأ عن أحوال السوريين، والمشرّدين، والمقهورين في العالم، والأسرى، وكم حاولت أن أتخيّل حجم معاناتهم، وعشنا عددا من الحروب، إلا أن هذا البلاء هو اختبار حقيقي للصبر، والتحمل، وللظرف الصعب، لقد مررت عن حياتكم التي تعيشونها الآن، شوارع مُضاءة، وأصدقاء وخروجات، بل حتى مساجد، لا أصلي الجمعة الآن في جماعة، وقد كانت هذه الليلة، ليلة الخميس عرسًا عندي، ووقتًا محجوزًا منذ أسابيع، إذ لست أخرج مع أحد يوم الجمعة، أذهب للمسجد باكرًا، وأقرأ بعد العصر على السطح، أو أحضر درسًا تزكويًّا في مسجدنا، وأجلس أحيانا عند الطيور التي نربّيها، الآن لا يوجد دجاجة واحدة في شمال القطاع!
لم تعد هناك صباحات باسِمة، ولا مساءات هادئة أو أيام هانئة، أو أوقات دافئة، كل ما يُعاش الآن هو حرب وفوضى، موت ونزوح وجوع وتكرار للموت بأشكال مختلفة.
مررت عن حياتكم هذه وأنا أشاهد الصور، وأعيش حياتي هذه التي لا أعلم كيف صمدنا فيها حتى الآن (لسنا أسطوريين للعلم)، فيا لله كم كان الإنسان غافلًا لاهيًا، أحبّوا هَونًا، وأبغضوا هَونًا، فإنها فانية.
مَحمُود عبداللّٰه
28 نوفمبر 2024م.