ولما اجتمع الناس، وقامت الخطباء لبيعة يزيد، وأظهر قوم الكراهة قام رجل من عذرة يقال له يزيد بن المقنّع، فاخترط من سيفه شبرا ثم قال: أمير المؤمنين هذا- وأشار بيده إلى معاوية- فإن مات فهذا- وأشار بيده إلى يزيد- فمن أبى فهذا- وأشار بيده إلى سيفه. فقال له معاوية: أنت سيد الخطباء.
—----
تتردد تلك الرواية في كل كتاب يريد الطعن في معاوية رضي الله عنه، أو يريد الطعن في بني أمية على الجملة، أو يريد الطعن في التاريخ الإسلامي عموما، أو حتى يريد الطعن في مفهوم الخلافة كله..
ومن أسف أنها وقت في كتابات بعض المشايخ لشهرتها دون أن يتحروها وأن يتثبتوا منها، إنما حملهم على روايتها اندفاعهم في مهاجمة الاستبداد وغصب الحكم بالقوة، وفي الدفاع عن الشورى وحق الأمة.. ومع نبل دوافعهم فلا يليق بهم إيرادها لأسباب نسوقها الآن.
1. تلك الرواية على شهرتها إنما وردت في كتب الأدب، وأول ما وقع لي ممن رواها الجاحظ (ت 255هـ) في "البيان والتبيين" ثم ابن قتيبة (ت 276هـ) في "عيون الأخبار" ثم ابن عبد ربه (ت 328هـ) في "العقد الفريد".
وفي تلك الكتب جميعا رُوِيَتْ بلا إسناد.
وهي في كتاب الجاحظ وابن قتيبة جاءت في سياق الكلام الفصيح ومواهب البلاغة ونحو هذا مما يهتم به كتاب الأدب بغض النظر عن قيمته التاريخية، فكتب الأدب تطلب من الحكايات والألفاظ والتعبيرات ما كان فصيحا أو جذابا.. وهكذا ذكرها الجاحظ في باب: أسجاع الكلام، وذكرها ابن قتيبة في باب: التلطف في الكلام والجواب.
ولذلك استمر ترداد الرواية في كتب مثل "المرقصات والمطربات" و"المستطرف" ونحوه.
وأول من أوردها في سياق (التاريخ) هو ابن عبد ربه في "العقد الفريد"، وهذا الكتاب هو من جملة كتب الأدب، لكنه وضع فصلا في التاريخ فأورد هذه فيها. وأوردها كذلك بلا إسناد ولا مصدر.
2. أما أول ذكر لها في كتب التاريخ حسبما رأيت، فهو ابن الأثير (ت 630هـ) في "الكامل" ثم سبط ابن الجوزي (ت 654 هـ) في "مرآة الزمان"، وكلاهما توفيا في القرن السابع للهجرة.
ومن المعروف بممارسة الكتاب أن ابن الأثير يختصر ما في الطبري (ت 310هـ) وما في "تجارب الأمم" لمسكويه (ت 421هـ)، مع ما يقع له من الزيادات، وكلا هذين الكتابين، وهما عمدة ابن الأثير، لم ترد فيه تلك الرواية. وهذا بالرغم من توسع الطبري في إيراد ما تصل إليه يده مهما ضعف سنده واستشنعه سامعه.
وأما سبط ابن الجوزي فقد نسبها إلى الواقدي (أو المدائني، بحسب الاختلاف في المخطوطات، والأرجح أنه من التصحيف)..
وكلاهما مؤرخان مشهوران معروفان بكثرة التواريخ، إلا أن الرواية عن كل منهما لا تصح، فأما الواقدي فمتروك لا تؤخذ روايته، لا سيما ما انفرد به.
وأما المدائني فاختلفوا فيه فوثقه ابن معين وغيره وقال ابن عدي: ليس بالقوي. لكن حتى لو قلنا بأنه ثقة صدوق، فليس لدينا سند الرواية لنعرف من قبله، فهو قد توفي (225هـ) أي بعد أكثر من قرن ونصف من زمن الرواية.
لكن اللافت للنظر أن كلا من الواقدي والمدائني ممن انتشرت رواياتهم بكثرة في كتب التاريخ، لسعة علمهما بالتاريخ وغزارة ما روياه، ومع هذا فقد كانت تلك الرواية من بين الروايات التي أعرض عنها الناقلون عنهما مع كثرتهم، وهو ما قد يشكك في روايتهما لها أو يشير إلى ضعفها الشديد وازدراء الرواة لها، فإنهم قد رووا الكثير الغزير مع ضعفه ونكارته.
والمدائني عراقي، حياته بين البصرة والمدائن ثم سكن بغداد إلى أن مات، وكان في زمن العصر الذهبي للخلافة العباسية أيام الهادي والرشيد والمأمون والمعتصم، فالغالب أن يكون مصدره -إن صح أنه مصدر سبط ابن الجوزي أصلا- عراقيا، والعراقيون في زمن العباسيين كثرت فيهم الروايات الطاعنة في الأمويين.. فهذه، مع جهالتنا سنده إن كان له في روايتها سند، تضيف سببا جديدا لعدم الثقة في الرواية.
هذا من حيث السند..
وأما من حيث المتن، فيصعب تصور أن يقال مثل هذا التهديد في حضرة الرجال الذين استقدمهم لمعاوية لاستشارتهم في أخذ البيعة لولده، فهو تهديد لوجوه قبائل العرب وزعمائها، وهم من يستثير حميتهم كلام أقل من هذا بكثير..
وفي تفاصيل الرواية اضطراب، فأحيانا ترد على أن المتكلم أنقذ معاوية لما لم يدر ما يقول، وأحيانا على أنها كانت ردا على من أظهر الكراهة لبيعة يزيد، وأحيانا أنها كانت في سياق خطب كلها مؤيدة لتولية يزيد.
ويلوح لي أن متحدث بني عذرة، لم يكن في ذلك الوقت ليجرؤ على مثل هذا التهديد،
الخلاصة:
غاية ما وصل البحث إليه في سند تلك الرواية أنها مروية بلا سند..
وأقوى احتمال لروايتها هو في غاية الضعف، وهو أن يكون سبط ابن الجوزي نقلها عن كتاب مفقود للمدائني، وليس ثمة سند معروف فوق المدائني.
وقد تركها المؤرخون الأوائل جميعا مع توسعهم في الرواية حتى كان أول ذكر لها هو ابن الأثير في القرن السابع للهجرة.
—----
تتردد تلك الرواية في كل كتاب يريد الطعن في معاوية رضي الله عنه، أو يريد الطعن في بني أمية على الجملة، أو يريد الطعن في التاريخ الإسلامي عموما، أو حتى يريد الطعن في مفهوم الخلافة كله..
ومن أسف أنها وقت في كتابات بعض المشايخ لشهرتها دون أن يتحروها وأن يتثبتوا منها، إنما حملهم على روايتها اندفاعهم في مهاجمة الاستبداد وغصب الحكم بالقوة، وفي الدفاع عن الشورى وحق الأمة.. ومع نبل دوافعهم فلا يليق بهم إيرادها لأسباب نسوقها الآن.
1. تلك الرواية على شهرتها إنما وردت في كتب الأدب، وأول ما وقع لي ممن رواها الجاحظ (ت 255هـ) في "البيان والتبيين" ثم ابن قتيبة (ت 276هـ) في "عيون الأخبار" ثم ابن عبد ربه (ت 328هـ) في "العقد الفريد".
وفي تلك الكتب جميعا رُوِيَتْ بلا إسناد.
وهي في كتاب الجاحظ وابن قتيبة جاءت في سياق الكلام الفصيح ومواهب البلاغة ونحو هذا مما يهتم به كتاب الأدب بغض النظر عن قيمته التاريخية، فكتب الأدب تطلب من الحكايات والألفاظ والتعبيرات ما كان فصيحا أو جذابا.. وهكذا ذكرها الجاحظ في باب: أسجاع الكلام، وذكرها ابن قتيبة في باب: التلطف في الكلام والجواب.
ولذلك استمر ترداد الرواية في كتب مثل "المرقصات والمطربات" و"المستطرف" ونحوه.
وأول من أوردها في سياق (التاريخ) هو ابن عبد ربه في "العقد الفريد"، وهذا الكتاب هو من جملة كتب الأدب، لكنه وضع فصلا في التاريخ فأورد هذه فيها. وأوردها كذلك بلا إسناد ولا مصدر.
2. أما أول ذكر لها في كتب التاريخ حسبما رأيت، فهو ابن الأثير (ت 630هـ) في "الكامل" ثم سبط ابن الجوزي (ت 654 هـ) في "مرآة الزمان"، وكلاهما توفيا في القرن السابع للهجرة.
ومن المعروف بممارسة الكتاب أن ابن الأثير يختصر ما في الطبري (ت 310هـ) وما في "تجارب الأمم" لمسكويه (ت 421هـ)، مع ما يقع له من الزيادات، وكلا هذين الكتابين، وهما عمدة ابن الأثير، لم ترد فيه تلك الرواية. وهذا بالرغم من توسع الطبري في إيراد ما تصل إليه يده مهما ضعف سنده واستشنعه سامعه.
وأما سبط ابن الجوزي فقد نسبها إلى الواقدي (أو المدائني، بحسب الاختلاف في المخطوطات، والأرجح أنه من التصحيف)..
وكلاهما مؤرخان مشهوران معروفان بكثرة التواريخ، إلا أن الرواية عن كل منهما لا تصح، فأما الواقدي فمتروك لا تؤخذ روايته، لا سيما ما انفرد به.
وأما المدائني فاختلفوا فيه فوثقه ابن معين وغيره وقال ابن عدي: ليس بالقوي. لكن حتى لو قلنا بأنه ثقة صدوق، فليس لدينا سند الرواية لنعرف من قبله، فهو قد توفي (225هـ) أي بعد أكثر من قرن ونصف من زمن الرواية.
لكن اللافت للنظر أن كلا من الواقدي والمدائني ممن انتشرت رواياتهم بكثرة في كتب التاريخ، لسعة علمهما بالتاريخ وغزارة ما روياه، ومع هذا فقد كانت تلك الرواية من بين الروايات التي أعرض عنها الناقلون عنهما مع كثرتهم، وهو ما قد يشكك في روايتهما لها أو يشير إلى ضعفها الشديد وازدراء الرواة لها، فإنهم قد رووا الكثير الغزير مع ضعفه ونكارته.
والمدائني عراقي، حياته بين البصرة والمدائن ثم سكن بغداد إلى أن مات، وكان في زمن العصر الذهبي للخلافة العباسية أيام الهادي والرشيد والمأمون والمعتصم، فالغالب أن يكون مصدره -إن صح أنه مصدر سبط ابن الجوزي أصلا- عراقيا، والعراقيون في زمن العباسيين كثرت فيهم الروايات الطاعنة في الأمويين.. فهذه، مع جهالتنا سنده إن كان له في روايتها سند، تضيف سببا جديدا لعدم الثقة في الرواية.
هذا من حيث السند..
وأما من حيث المتن، فيصعب تصور أن يقال مثل هذا التهديد في حضرة الرجال الذين استقدمهم لمعاوية لاستشارتهم في أخذ البيعة لولده، فهو تهديد لوجوه قبائل العرب وزعمائها، وهم من يستثير حميتهم كلام أقل من هذا بكثير..
وفي تفاصيل الرواية اضطراب، فأحيانا ترد على أن المتكلم أنقذ معاوية لما لم يدر ما يقول، وأحيانا على أنها كانت ردا على من أظهر الكراهة لبيعة يزيد، وأحيانا أنها كانت في سياق خطب كلها مؤيدة لتولية يزيد.
ويلوح لي أن متحدث بني عذرة، لم يكن في ذلك الوقت ليجرؤ على مثل هذا التهديد،
الخلاصة:
غاية ما وصل البحث إليه في سند تلك الرواية أنها مروية بلا سند..
وأقوى احتمال لروايتها هو في غاية الضعف، وهو أن يكون سبط ابن الجوزي نقلها عن كتاب مفقود للمدائني، وليس ثمة سند معروف فوق المدائني.
وقد تركها المؤرخون الأوائل جميعا مع توسعهم في الرواية حتى كان أول ذكر لها هو ابن الأثير في القرن السابع للهجرة.