س: كيف تكون الشريعة صالحةً لكل مكانٍ وزمانٍ ، وهي عبارة عن نصوص محصورة لا تزيد، وكيف تستوعب الحوادث المتجددة التي لا تتناهى بنصوصها المتناهية ؟!
هذا سؤالٌ مُضمَرٌ في نفوس كثير ممن لم يُمعن في سرّ الشريعة وروحها وخصيصتها من المنتسبين إليها، ومُظهَرٌ عند كثير من أهل التشكيك والمناوأة للشريعة من أعدائها، والجواب عنه مما مُدّ بساطُه منذ القدم على أيدي فقهاء الشريعة وأئمة الملة، فقد شهروه في مدوناتهم، وحقّقوه في مصنفاتهم ، وجوهر الجوابُ يتلخص فيما يلي:
أولا: أنّ هذه الشريعة شريعة (العموم) لا شريعة (الخصوص).
ومفاد ذلك: أنّ الشريعة لم تأتِ-في الأعم الأغلب- بالنصّ على آحاد الأشياء إباحةً وتحريمًا ، بل جاءت بالألفاظ العامة الجامعة التي يندرج تحتها ما لا يحصى من الآحاد والأجزاء، وعلقت بها الأحكام، لتمتدّ رُقعتها ، فتشمل كل ما يستجدّ ، مهما تطاول الدهر.
ثانيًا: أنّ هذه الشريعة شريعة (القواعد والكليات) لا شريعة(الشوارد والجزئيات).
ومفاد ذلك: أنّ الشريعة جاءت في غالب خطابها على طريقة الكليات الجامعة التي تلمّ منثور الجزئيات في سلكٍ واحدٍ ؛ و ما (جوامع الكلم) التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا القبيل ، كما بيّن أهل العلم.
والفرق بين العمومات والكليات: أنّ الشمول في العمومات مستفاد من طريق الألفاظ، والشمول في الأخرى مستفاد من طريق المعاني.
فالكليات وإن لم يتحقق فيها العموم اللفظي، فإن لها عموما معنويا تستغرق به الجزئيات وتشملها في وعائها.
ثالثًا: أنّ هذه الشريعة شريعة (العلل والأوصاف والمعاني) لا شريعة (الأسماء والألقاب والمباني).
ومفاد ذلك: أنّ الشريعة جاءت في أكثر أحكامها وتشريعاتها معلّقةً إيّاها على علل وأوصاف؛ قصدًا إلى إرشاد المكلفين وتنبيههم إلى أثر تلك العلل والأوصاف في الأحكام، فحيثما وجدت تلك العلل، وجدت تلك الأحكام، وحيثما انتفت ، انتفت الأخرى.
والتعليل هو أساس القياس الذي هو المُدرك المتجدد لاستنباط الأحكام.
وبهذا يمتدّ رِواق الشريعة لتُظلّلَ به ما لا يتناهى من الصور الحادثة، ويندرج تحتها من الأحوال المتجددة ما لا حصر له، مهما تمادت وتفرّعت وتشعبت.
فدوران الشريعة مع العلل سر من أسرار خلودها، وبقائها غضّةً جديدة الإهاب، دائمة الشباب.
رابعًا: أنّ هذه الشريعة شريعة (جلب المصالح) و(درء المفاسد) وهذا أصل كونها شريعة (الحكم والمقاصد والغايات).
ومفاد ذلك: أنّ الشريعة جاءت لجلب مصالح العباد وتحصيلها، ودرء المفاسد عنهم وتقليلها.
وهذا أصل كل حكم في الشريعة، فكل ما شرع الله فيها؛ فلأنّ مصلحته خالصة ، أو غالبة.
وكل ما منعه فيها ؛ فلأنّ مفسدته خالصة، أو غالبة.
فالمصلحة هي: أصل الإذن.
والمفسدة هي: أصل المنع.
والمصالح والمفاسد في الشريعة يعتبر فيها الجانب الدنيوي والأخروي معًا ، فإن تزاحما، غُلّبت مصالح الآخرة، وهذا بخلاف النظم المادية الحديثة التي تحصر المنافع والمضار في الجانب الدنيوي الضيق.
وبهذا الميزان؛ يُتعرّف على كثير من أحكام الوقائع والحوادث والصور والجزئيات التي لا نصّ فيها ولا تُلحق بنصٍّ بوجه من وجوه الإلحاق.
كل هذا وغيره يجعل من الشريعة موردا عذبا ، ومعينا لا ينضب، ينهل منه الواردون، ويستنبط منه المجتهدون، ويبين عن أنها واسعة سعة لا تضيق عن المستجدات مهما تباعد الزمان، وتطاول العمر.
ومهما انفرط عقد الفروع والجزئيات، فإنّ الشريعة تجمعه وتستوعبه في نظامها الذي وسع كلّ شيءٍ.
هذه عجالةٌ من القول ، أُلقيها لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقد قصدت تجريدها من الأمثلة؛ طلبا للاختصار، وربما وقع التمثيل مفصلا في مكتوبٍ غيره، والله الموفق.
✍ وكتب/
أبو طارق زياد خياط
https://t.me/drwasfy