جرت العادة أن يضع الناس من قدر كل ما لا يبذل جهد في تحصيله. وإنك لترى المال في يد وارث الغنى بلا قيمة، وفيه كل القيمة عند من حصّله بعرق جبينه. وترى الطعام في فم الفقير أشهى منه في فم الغني، إذ أنقصت كثرة حضوره قيمته. وترى السلطان عند المتأخرين مجرد لعب ولهو وفيه سبيله أُفنيت حياة الأولين. وترى ساعة الراحة عند من لا يملك وقته ألذ من كل ساعات مالك وقته. وهكذا دواليك. فالشيء في حقيقته لا يفهم ولا يقيَّم إلا في إطار يحدِّد موضعه ودلالته ومعناه، وهو إطار لا يحدَّد بدوره إلا في سياق حياة المرء بأسرها. والعجيب أنك ترى المرء يتمنى امتثال الأمور لكلمته ثم تجده معرضًا عنها منزلًا من قيمتها ما أن تمتثل له! نسخر من النساء بحجة أنهن لا يعرفن ما يردن، والغالب على جنسنا أنه يريد الشيء ولا يريده في آن الوقت. نريد لذة الطعام والشراب ولا نريد ألم الامتلاء، ونريد فخر التملّك بلا جهد المخاطرة، وشرف المجد بلا عناء المكافحة. ننتزع المضيء من كل شيء ونريده، جهلًا منا بأن تخليص ما نريده مما لا نريده فيه هلاك الاثنان! كل ما أنتجته الإرادة البشرية التي تبتغي إنهاء المعاناة هو تحايل شيطانيّ يهلك العالم والإنسان في آن الوقت، إذ قوة الإرادة آتية من اشتداد النزاع، وسبل تحصيل المراد منطوية على ألم تولَد منه لذه التحقق. تأمَّل عصرنا وهو عصر أراد إتاحة كل شيء لكل شخص، انتهى بإتاحةٍ كميّة ومصطنعة، ذروتها التقنية التي تخيل لك أنها تضع "العالم" بين يديك. تلك التقنية بفضلها تحضِّر طعامك في ذات الوقت الذي تراسل فيه من يقطن آخر الدنيا فتضيع على نفسك من عائد النشاطين معًا. تأمل تشكي المعاصرين من تآكل العالم وفقر التجارب، في ذات الوقت الذي يناضلون فيه لأجل إتاحة كل شيء لكل شخص، وإلغاء المعاناة بكل صورها، وقارنه بحال الطفل الذي يركل ما أنهك نفسه بكاءً عليه، بعد أن صار بين يديه ومضى عليه الوقت، فلن تجد فرقًا وحدًا.
موقف العاقل من جنسه، المسمى ذوراً وبهتانًا بالجنس العاقل وهو لا يملك من نور العقل إلا ومضةً، لا بُدّ أن يتضمن الكثير من المسنثروبيا التي تبدأ من الذات قبل أي واحدٍ آخر. لو كانت نظراتنا المباشرة للأشياء – الحاقدة على العالم لأنها لا تناله، والكارهة لما تناله في ذات الوقت – محقة لوجب علينا إعدام العقل وشنق كل عاقل بلا هوادة، لننهي بذلك تطفل هذا الغريب الذي يعيب فينا هذا السلوك المتناقض. أما إن كان العقل محقًا فحريّ به ألا ينسى نصيبه من السخرية، ومن كل مخدّرٍ خلق لتعويضه عن هذا العالم الذي زج به فيه. بل على العقل أن يسخر من ذاته لأنه يريد إنهاء تناقض الإنسان لا لأنه يعيب ما فيه من تناقض! مع أن تلك الرغبة الصادرة عنه في الانسحاب من اللعبة هي الأحق بالسخرية! قديمًا خلقت هذه الرغبة درب اتبعته طائفة من الحكماء: ملازمة النفي حتى يفني ذاته، لننتهي إلى عالم استوعب تناقضه عن طريق التصالح السلبي معه، وهو تصالح يجرّم علينا ما يحلّه للوجود بأسره.