عن كتاب 📚السيرة النبوية المرحلة المكية🕋
✍️بقلم: أ. أبو ياسر القادري
💎الحصار والمقاطعة:
ولمَّا شعرت قريش أنَّها أخفقت في كلِّ الأساليب التي اعتمدتها لوقف انتشار الدعوة فقد ارتأت في أعقاب اجتماع عقده زعماؤها أن ترفع سلاح المقاطعة الشاملة كعقاب جماعيِّ للمسلمين ومعهم بني هاشم وبني عبد المطَّلب، إلَّا أبا لهب فكان مع قريش، كان ذلك في السنة السابعة للبعثة وكتبت قريش بذلك صحيفةً فيها عهود ومواثيق ألَّا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً ولا تأخذهم بهم رأفة حتَّى يسلموا رسول الله ﷺ للقتل، ويقال كتبها بغيض بن عامر بن هشام فدعا عليه رسول الله ﷺ فشُلَّت يده.
وعُلِّقت الصحيفة في جوف الكعبة وحوصر المسلمون في شعب بني هاشم، وانحاز معهم من المشركين من بني هاشم وبني المطَّلب وأدخلوا النبيَّ في شعبهم ومنعوه ممَّن أراد قتله، وكان ذلك حميَّةً على عادة الجاهليَّة، واشتدَّ الحصار وقطعت عنهم قريش كلَّ طعام أو زاد حتَّى أكل المحاصرون من الأوراق والجلود؛ ويقول سعد بن وقاص س: خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعةً تحت البول فإذا قطعةً من جلد بعير يابسةً، فأخذتها وغسلتها ثم أحرقتها ورضضتها وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثاً.
وكان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يبكون من الجوع وكان لا يصل إليهم شيءٌ إلَّا سرَّاً، وكان إذا أراد أحد إدخال شيء زادت قريش في القيمة حتَّى لا يستطيعوا الشراء.
وتحمَّل رسول الله ﷺ مالم يتحمَّله غيره، فهو في الطعام والشراب واحد من القوم حاله كحالهم، ولكنَّه كان يحمل هم الجميع يحزن لبكاء الصبي وهو لا يجد ما يسكته، ويتألَّم وهو يرى وجوه النساء وقد فارقتها حيويَّة الحياة، ويتأثَّر وهو يرى وجوه أصحابه وأقربائه وقد فارقتها نضرتها وأثَّر فيها الحصار.
إنَّ النبي ﷺ يعطي الصورة والموقف الحقيقيَّ لكل قيادة بين المسلمين على مرِّ الزمان أنَّه ينبغي للقائد ألَّا يميِّز نفسه عن العامَّة، وأن يعيش كما يعيشون وأن يتواضع لهم ولا يترفَّع عنهم ويتحسَّس معاناة وآلام الناس فيعرف حوائجهم، فكان رسول الله ﷺ نعم القائد في مثل هذه الأوقات التي تمرُّ بالمسلمين، وها هو يقوِّي من عزيمة من معه ويحدِّثهم عن جزاء الصابرين.
ونلاحظ في محنة الحصار اختباراً آخر هو التحرُّر من حاجات الجسد في الطعام والشهوات، وقد أثبت المسلمون عمليَّاً قدرتهم على ذلك؛ وهكذا ينتقل المسلمون من اختبار إلى اختبار، بل قل من دورة إلى دورة مبرهنين أنَّ عقيدة الإيمان قدرتها عجيبة في صياغة النفس الإنسانيَّة.
إنَّ حصاراً من هذا النوع يدوم ثلاث سنوات قادرٌ أن يطأطأ الرؤوس ويخضعها ولكنَّه لم يستطع فعل شيء سوى أنَّه زاد حماس المؤمنين لإرادة التغيير التي ترفع الظلم لتقيم مكانه العدل والأمان؛ وفي أيَّام الشعب كان المسلمون يلقون غيرهم في موسم الحج، ولم تشغلهم آلامهم وحصارهم عن تبليغ الدعوة والعمل على هداية الناس، فإن الاضطهاد لا يقتل الدعوات بل يزيد جذورها عمقاً وفروعها امتداداً.
وقد كسب الإسلام أنصاراً كثراً في هذه المرحلة وبدأ المشركون ينقسمون على أنفسهم، فراح بعضهم يأتي بالجمل ليلاً وقد حَمَّل عليه الطعام حتَّى يصل به إلى فم الشعب، فيخلع خطامه من رأسه ويرسله ثم يضرب على جنبه فيدخل الشعب.
☘️
@kadree☘️