👈قال أبو محمد بن حزم رحمه الله : ( فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ و لم يبطل بذلك إيمانهم ، و هذا ما لا مخلص منه ، و إنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة و تبيينهم لها ) [ الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 142 ].
و ممَّن خالف مذهب الجمهور في مسألة العذر بالجهل ، من لم يجد ما يمكن أن يؤوِّل به هذه الآية الكريمة ، فصار إلى إمرار الآية على ظاهرها ، و لكن على ما قرأه الكسائي رحمه الله : ( هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ) تَستطيعُ – بتاءٍ مفتوحة – و ربَّكَ - بنصب الباء المشدَّدة - وهي قراءة علي و عائشة و ابن عباس و مجاهد . [ انظر : تفسير القرطبي : 6/365 و الطبري : 7/129 و ابن كثير : 2/117 و فتح القدير : 2/93 ] .
و في تفسير الآية على هذه القراءة قال القرطبي : ( قال الزجاج : هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله ، و قيل : هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله ، و المعنى متقارب و لا بد من محذوف ) [ تفسير القرطبي : 6 / 365 ] .
و روى رحمه الله في تفسيره عن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها : ( كان القوم أعلم بالله عز و جل من أن يقولوا : ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ). قالت : و لكن : ( هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ).
و على هذا المعنى لا يكون الحواريُّون قد قالوا ما قالوه شاكين في قدرة الله ، و لا يكون ممَّا يُكفِّر ، و بالتالي فلا حجّة في الآية على العذر بالجهل ، فضلاً عن وقوعه .
و لكن لا تقوم حجة بهذا التفسير في مقابل حجة الجمهور على القراءة المشهورة ، بل غاية ما يمكن أن يقال – تنزلاً – أن كلا القولين محتمل ، و لكن رأي الجمهور يؤيده الدليل السابق ، و ما سيأتي ، فيبقى عليه المعوَّل ، و به الفتيا ، و الله أعلم .
ثالثاً : الاستدلال بالإجماع ، و قد ورد في كلام الإمام ابن حزم الظاهري حيث قال : ( برهانٌ ضروريٌ لا خلاف فيه : و هو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم ، و هو أن كل من بدل آية من القرآن عامداً ، و هو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك ، و أسقط كلمةً عمداً كذلك ، أو زاد فيها كلمة عامداً ، فإنه كافر بإجماع الأمَّة كلِّها ، ثم إن المرء يخطئ في التلاوة ، فيزيد كلمة و ينقص أخرى ، و يبدل كلامه جاهلاً ، مقدراً أنه مصيب ، و يكابر في ذلك ، و يناظر قبل أن يتبين له الحق ، و لا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافراً ، و لا فاسقاً و لا آثماً ، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره ، فإن تمادى على خطئه فهو عند الأمة كلِّها كافر بذلك لا محالة ، و هذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة ) [ الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 142 ].
قلتُ : و هذا الكلام على قوته فيه وجه آخر ، و هو قياس الأولى ؛ فإذا كان المخطئ في التلاوة معذوراً بجهله و إن أحال المعنى عن المراد بزيادة أو نقصان أو تصحيف ، مع أنَّه لا يتصور عجزه عن تعلُّم تلاوة آي الكتاب ، لكثرة المعتنين بتعليمه ، و نشر علومه ، و تفسيره في كل زمان و مكان ، و ندرة الخلاف في ذلك بين أبناء المذهب الواحد ، بل و بين الفرق الإسلامية ، على تعددها ، و تشعب مسالكها ، فمن الأولى أن يكون معذوراً بجهله في دقائق العلم ، و خفايا المسائل – بالنسبة لمن هو في مثل حاله – كمسائل الأسماء و الصفات التي قد لا يتسنى له من يعلمه إياها ، أو يرشده إلى مذهب أهل الحق و التحقيق فيها ، خاصة و أنَّ الخلاف فيها قائم على أشدِّه بين الفرق و الطوائف .
و يحسن بنا و نحن نؤكد على مذهب الجمهور في العذر بالجهل في أصول الدين أن نؤكِّد على أنَّ العذر لا يقبل ممن يعيش بين ظهراني المسلمين و فيهم العلماء و الدعاء ، و لكن الجاهل المعذور بجهله هو حديث العهد بدين الإسلام ، أو من يعيش في منأى عن بلاد المسلمين ، أو حيث لا علم و لا علماء و لم يتسنَّ له من يعلمه ، أو يوقفه على ما يجب عليه اعتقاده من مسائل الأصول .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( لو عُذِرَ الجاهل ؛ لأجل جهله لكان الجهل خيراً من العلم إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف و يريح قلبه من ضروب التعنيف ؛ فلا حجة للعبد في جهله بالحكم بعد التبليغ و التمكين ؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرُسل ) [ المنثور في القواعد ، للزركشي : 2 / 17 ] .
فلا يغيبن عنك يا يطلب الحق بدليله أن الأمر ليس على إطلاقه ، و لكنَّه مقيَّد مضبوط عن أهل العلم ، فخذه بقيده ، و اضبطه بضبطه ، و الله يتولاك .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .
وكتب
د . أحمد بن عبد الكريم نجيب
و ممَّن خالف مذهب الجمهور في مسألة العذر بالجهل ، من لم يجد ما يمكن أن يؤوِّل به هذه الآية الكريمة ، فصار إلى إمرار الآية على ظاهرها ، و لكن على ما قرأه الكسائي رحمه الله : ( هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ) تَستطيعُ – بتاءٍ مفتوحة – و ربَّكَ - بنصب الباء المشدَّدة - وهي قراءة علي و عائشة و ابن عباس و مجاهد . [ انظر : تفسير القرطبي : 6/365 و الطبري : 7/129 و ابن كثير : 2/117 و فتح القدير : 2/93 ] .
و في تفسير الآية على هذه القراءة قال القرطبي : ( قال الزجاج : هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله ، و قيل : هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله ، و المعنى متقارب و لا بد من محذوف ) [ تفسير القرطبي : 6 / 365 ] .
و روى رحمه الله في تفسيره عن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها : ( كان القوم أعلم بالله عز و جل من أن يقولوا : ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ). قالت : و لكن : ( هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ).
و على هذا المعنى لا يكون الحواريُّون قد قالوا ما قالوه شاكين في قدرة الله ، و لا يكون ممَّا يُكفِّر ، و بالتالي فلا حجّة في الآية على العذر بالجهل ، فضلاً عن وقوعه .
و لكن لا تقوم حجة بهذا التفسير في مقابل حجة الجمهور على القراءة المشهورة ، بل غاية ما يمكن أن يقال – تنزلاً – أن كلا القولين محتمل ، و لكن رأي الجمهور يؤيده الدليل السابق ، و ما سيأتي ، فيبقى عليه المعوَّل ، و به الفتيا ، و الله أعلم .
ثالثاً : الاستدلال بالإجماع ، و قد ورد في كلام الإمام ابن حزم الظاهري حيث قال : ( برهانٌ ضروريٌ لا خلاف فيه : و هو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم ، و هو أن كل من بدل آية من القرآن عامداً ، و هو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك ، و أسقط كلمةً عمداً كذلك ، أو زاد فيها كلمة عامداً ، فإنه كافر بإجماع الأمَّة كلِّها ، ثم إن المرء يخطئ في التلاوة ، فيزيد كلمة و ينقص أخرى ، و يبدل كلامه جاهلاً ، مقدراً أنه مصيب ، و يكابر في ذلك ، و يناظر قبل أن يتبين له الحق ، و لا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافراً ، و لا فاسقاً و لا آثماً ، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره ، فإن تمادى على خطئه فهو عند الأمة كلِّها كافر بذلك لا محالة ، و هذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة ) [ الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 142 ].
قلتُ : و هذا الكلام على قوته فيه وجه آخر ، و هو قياس الأولى ؛ فإذا كان المخطئ في التلاوة معذوراً بجهله و إن أحال المعنى عن المراد بزيادة أو نقصان أو تصحيف ، مع أنَّه لا يتصور عجزه عن تعلُّم تلاوة آي الكتاب ، لكثرة المعتنين بتعليمه ، و نشر علومه ، و تفسيره في كل زمان و مكان ، و ندرة الخلاف في ذلك بين أبناء المذهب الواحد ، بل و بين الفرق الإسلامية ، على تعددها ، و تشعب مسالكها ، فمن الأولى أن يكون معذوراً بجهله في دقائق العلم ، و خفايا المسائل – بالنسبة لمن هو في مثل حاله – كمسائل الأسماء و الصفات التي قد لا يتسنى له من يعلمه إياها ، أو يرشده إلى مذهب أهل الحق و التحقيق فيها ، خاصة و أنَّ الخلاف فيها قائم على أشدِّه بين الفرق و الطوائف .
و يحسن بنا و نحن نؤكد على مذهب الجمهور في العذر بالجهل في أصول الدين أن نؤكِّد على أنَّ العذر لا يقبل ممن يعيش بين ظهراني المسلمين و فيهم العلماء و الدعاء ، و لكن الجاهل المعذور بجهله هو حديث العهد بدين الإسلام ، أو من يعيش في منأى عن بلاد المسلمين ، أو حيث لا علم و لا علماء و لم يتسنَّ له من يعلمه ، أو يوقفه على ما يجب عليه اعتقاده من مسائل الأصول .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( لو عُذِرَ الجاهل ؛ لأجل جهله لكان الجهل خيراً من العلم إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف و يريح قلبه من ضروب التعنيف ؛ فلا حجة للعبد في جهله بالحكم بعد التبليغ و التمكين ؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرُسل ) [ المنثور في القواعد ، للزركشي : 2 / 17 ] .
فلا يغيبن عنك يا يطلب الحق بدليله أن الأمر ليس على إطلاقه ، و لكنَّه مقيَّد مضبوط عن أهل العلم ، فخذه بقيده ، و اضبطه بضبطه ، و الله يتولاك .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .
وكتب
د . أحمد بن عبد الكريم نجيب