أوراق الربيع (27)..*
*الحرب السعودية على أهل السنَّة*
محمد مختار الشنقيطي
"أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان"
صدر في العقد المنصرم كتابان مهمان يصفان انهيار الكتلة التاريخية المعروفة باسم "أهل السنة والجماعة" وصعود الكتلة الشيعية في كل أرجاء المشرق الإسلامي.
أحدهما كتاب الأكاديمي الأميركي من أصل إيراني والي حسين نصر :"صحوة الشيعة"،
والثاني كتاب الصحفية الأميركية دبورا آموس: "أفول أهل السنة."
ويكاد الكتابان يصفان الظاهرة ذاتها، لكن بلغتين مختلفتين، فكتاب والي نصر يفصِّل صعود الشيعة السياسي في المنطقة، خصوصا بعد الغزو الأميركي للعراق، مع تحيز واضح للمحور الشيعي، وشيء من نشوة النصر السائدة الآن لدى النخب السياسية الشيعية، وتحريضٍ لأميركا بالتعويل على القوى الشيعية الصاعدة، لا على القوى السنية الآفلة.
وأما كتاب دبورا آموس هو يصف انهيار القوة السنية في المنطقة، خصوصا بعد الغزو الأميركي للعراق. مع تعاطف مع محنة أهل السنة في العراق، وكشفٍ استقصائي لما تعرضوا منه من تقتيل وتهجير، وإزاحة من مواقع الصدارة في الدولة العراقية تحت شعار "اجتثاث البعث."
*ويمكن إرجاع هذه الظاهرة في وجهيْها -صحوة الشيعة وأفول السنَّة- إلى أن أهل السنة والجماعة أصبحوا سنة من غير جماعة بسبب السياسات السعودية، وهذا ما نحاول تجليته في هذه الورقة من أوراق الربيع.*
لقد تذكرتُ هذين الكتابين في الأيام الأخيرة وأنا أراقب -كما يراقب كثيرون مثلي- التخبط الفكري والاستراتيجي المذهل الذي تعاني منه إحدى أهم الدول السنية في الشرق الإسلامي، وهي المملكة العربية السعودية،
وهو تخبط ليس بالأمر بالجديد، ولكنه اتخذ منحىً دراماتيكيا في الأعوام القليلة الماضية.
*والسبب في الربط بين الكتابين وبين السياسة السعودية هو أن السلطة السعودية هي أكبر مسؤول عن محنة أهل السنة، وتشتت كلمتهم، وافتراق صفهم، خلال العقود الأخيرة،* سواء بتصديرها لخطابها الديني المتحجر، الذي حصر مفهوم الإسلام في دائرة ضيقة، وحصر مفهوم أهل السنة في دائرة أضيق، أو في استراتيجيتها المرتبكة المتناقضة التي حرَمت أهل السنة من النجاح في التعايش مع الشيعة أو في التدافع معهم.
لقد حافظ جمهور المسلمين من أهل السنة والجماعة على مستوى من اجتماع الكلمة وحفظ الكيان الإسلامي على مر العصور بفضل مبدأين:
*أولهما مبدأ "لا نكفِّر أحدا من أهل القِبلة"*
وهو مبدأ جليل مستمد من الحديث النبوي: "من صلَّى صلاتَنا، واستقبل قِبلتَنا، وأكل ذبيحَتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تُخْفروا الله في ذمته." (صحيح البخاري). وأورد النسائي هذا الحديث في باب "صفة المسلم" من سننه.
وقد صان هذا المبدأ الجليل المجتمعات الإسلامية في جل مراحل تاريخها من التكفير الممزِّق للصف، المفرق للكلمة.
وعبَّر الحافظ الذهبي عن هذه المحاذرة من تكفير أهل القِبلة، فيما يرويه عن أبي الحسن الأشعري، وعن شيخه ابن تيمية، فقال:
"رأيتُ للأشعري كلمةً أعجبتْني، وهي ثابتة رواها البيهقي: سمعتُ أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرُب أجَلُ أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد دعاني فأتيتُه، فقال: اشهدْ عليَّ أني لا أكفِّر أحداً من أهل القِبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا اختلاف العبارات.
[قال الذهبي] قلت: وبنحو هذا أدين،
وكذا كان شيخنا ابن تيمية أواخرَ أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم" (الذهبي، سير أعلام النبلاء).
*والمبدأ الثاني الذي حافظ به جمهور المسلمين على كيان الأمة الإسلامية هو مفهوم "أهل السنة والجماعة"، الذي كان في الماضي مفهوما واسعا يستوعب جمهور المسلمين من كل المذاهب والمشارب. ومِظلَّة فضفاضة تستظل بظلها غالبية المسلمين، بسلفيّيها وخلَفيّيها، من محدِّث وفقيه ومتكلم وصوفي...الخ،*
وكانت قوة مفهوم "أهل السنة والجماعة" تكمن في مرونته وقدرته على استيعاب مدارس إسلامية شتى، مما جعله يتَّسع للغالبية الساحقة من المسلمين.
وهكذا كان مفهوم "أهل القِبلة" يجمع جميع المسلمين تحت مظلة واحدة، بمن فيهم السنة والشيعة، وكان مفهوم "أهل السنة والجماعة" يجمع جمهور المسلمين -من غير الشيعة- تحت راية واحدة.
لكن مفهوم "أهل القبلة" يكاد يتلاشى اليوم من الثقافة الإسلامية،
كما أن "أهل السنة والجماعة" أصبحوا في عصرنا سنَّة من غير جماعة.
*والسبب في هذين الانحرافيْن يرجع بالأساس إلى ثقافة التكفير والتشهير التي بثتها السلطة السعودية -السياسية والدينية- في أرجاء العالم الإسلامي،*
وهي ثقافة تفرِّق ولا تجْمع، ولا يمكن أن تتحقق معها مظلة جامعة للمسلمين مثل مظلة "أهل القبلة"، ولا أن ترتفع معها راية جامعة لجمهور المسلمين مثل راية "أهل السنة والجماعة"،
*ولا يجهل أحد أن تلك الثقافة هي النبع الذي نهلتْ منه جميع حركات التكفير والتشهير في
*الحرب السعودية على أهل السنَّة*
محمد مختار الشنقيطي
"أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان"
صدر في العقد المنصرم كتابان مهمان يصفان انهيار الكتلة التاريخية المعروفة باسم "أهل السنة والجماعة" وصعود الكتلة الشيعية في كل أرجاء المشرق الإسلامي.
أحدهما كتاب الأكاديمي الأميركي من أصل إيراني والي حسين نصر :"صحوة الشيعة"،
والثاني كتاب الصحفية الأميركية دبورا آموس: "أفول أهل السنة."
ويكاد الكتابان يصفان الظاهرة ذاتها، لكن بلغتين مختلفتين، فكتاب والي نصر يفصِّل صعود الشيعة السياسي في المنطقة، خصوصا بعد الغزو الأميركي للعراق، مع تحيز واضح للمحور الشيعي، وشيء من نشوة النصر السائدة الآن لدى النخب السياسية الشيعية، وتحريضٍ لأميركا بالتعويل على القوى الشيعية الصاعدة، لا على القوى السنية الآفلة.
وأما كتاب دبورا آموس هو يصف انهيار القوة السنية في المنطقة، خصوصا بعد الغزو الأميركي للعراق. مع تعاطف مع محنة أهل السنة في العراق، وكشفٍ استقصائي لما تعرضوا منه من تقتيل وتهجير، وإزاحة من مواقع الصدارة في الدولة العراقية تحت شعار "اجتثاث البعث."
*ويمكن إرجاع هذه الظاهرة في وجهيْها -صحوة الشيعة وأفول السنَّة- إلى أن أهل السنة والجماعة أصبحوا سنة من غير جماعة بسبب السياسات السعودية، وهذا ما نحاول تجليته في هذه الورقة من أوراق الربيع.*
لقد تذكرتُ هذين الكتابين في الأيام الأخيرة وأنا أراقب -كما يراقب كثيرون مثلي- التخبط الفكري والاستراتيجي المذهل الذي تعاني منه إحدى أهم الدول السنية في الشرق الإسلامي، وهي المملكة العربية السعودية،
وهو تخبط ليس بالأمر بالجديد، ولكنه اتخذ منحىً دراماتيكيا في الأعوام القليلة الماضية.
*والسبب في الربط بين الكتابين وبين السياسة السعودية هو أن السلطة السعودية هي أكبر مسؤول عن محنة أهل السنة، وتشتت كلمتهم، وافتراق صفهم، خلال العقود الأخيرة،* سواء بتصديرها لخطابها الديني المتحجر، الذي حصر مفهوم الإسلام في دائرة ضيقة، وحصر مفهوم أهل السنة في دائرة أضيق، أو في استراتيجيتها المرتبكة المتناقضة التي حرَمت أهل السنة من النجاح في التعايش مع الشيعة أو في التدافع معهم.
لقد حافظ جمهور المسلمين من أهل السنة والجماعة على مستوى من اجتماع الكلمة وحفظ الكيان الإسلامي على مر العصور بفضل مبدأين:
*أولهما مبدأ "لا نكفِّر أحدا من أهل القِبلة"*
وهو مبدأ جليل مستمد من الحديث النبوي: "من صلَّى صلاتَنا، واستقبل قِبلتَنا، وأكل ذبيحَتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تُخْفروا الله في ذمته." (صحيح البخاري). وأورد النسائي هذا الحديث في باب "صفة المسلم" من سننه.
وقد صان هذا المبدأ الجليل المجتمعات الإسلامية في جل مراحل تاريخها من التكفير الممزِّق للصف، المفرق للكلمة.
وعبَّر الحافظ الذهبي عن هذه المحاذرة من تكفير أهل القِبلة، فيما يرويه عن أبي الحسن الأشعري، وعن شيخه ابن تيمية، فقال:
"رأيتُ للأشعري كلمةً أعجبتْني، وهي ثابتة رواها البيهقي: سمعتُ أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرُب أجَلُ أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد دعاني فأتيتُه، فقال: اشهدْ عليَّ أني لا أكفِّر أحداً من أهل القِبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا اختلاف العبارات.
[قال الذهبي] قلت: وبنحو هذا أدين،
وكذا كان شيخنا ابن تيمية أواخرَ أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم" (الذهبي، سير أعلام النبلاء).
*والمبدأ الثاني الذي حافظ به جمهور المسلمين على كيان الأمة الإسلامية هو مفهوم "أهل السنة والجماعة"، الذي كان في الماضي مفهوما واسعا يستوعب جمهور المسلمين من كل المذاهب والمشارب. ومِظلَّة فضفاضة تستظل بظلها غالبية المسلمين، بسلفيّيها وخلَفيّيها، من محدِّث وفقيه ومتكلم وصوفي...الخ،*
وكانت قوة مفهوم "أهل السنة والجماعة" تكمن في مرونته وقدرته على استيعاب مدارس إسلامية شتى، مما جعله يتَّسع للغالبية الساحقة من المسلمين.
وهكذا كان مفهوم "أهل القِبلة" يجمع جميع المسلمين تحت مظلة واحدة، بمن فيهم السنة والشيعة، وكان مفهوم "أهل السنة والجماعة" يجمع جمهور المسلمين -من غير الشيعة- تحت راية واحدة.
لكن مفهوم "أهل القبلة" يكاد يتلاشى اليوم من الثقافة الإسلامية،
كما أن "أهل السنة والجماعة" أصبحوا في عصرنا سنَّة من غير جماعة.
*والسبب في هذين الانحرافيْن يرجع بالأساس إلى ثقافة التكفير والتشهير التي بثتها السلطة السعودية -السياسية والدينية- في أرجاء العالم الإسلامي،*
وهي ثقافة تفرِّق ولا تجْمع، ولا يمكن أن تتحقق معها مظلة جامعة للمسلمين مثل مظلة "أهل القبلة"، ولا أن ترتفع معها راية جامعة لجمهور المسلمين مثل راية "أهل السنة والجماعة"،
*ولا يجهل أحد أن تلك الثقافة هي النبع الذي نهلتْ منه جميع حركات التكفير والتشهير في