• والتفَّ لسانه حولَ رقبتي
"تُخبئ القضبانُ الكثير.
فأرٌ على بقايا الخُبزِ المتحجر يقتات، وما هو خُبزٌ ولكن خُيِّل له؛ الاضطرار يضطهد الرّغبات، والسراب قد يكونُ في مكانٍ غير الصحراء!
عظامٌ في زاوية الزنزانةِ تقبُع، يُشَكُّ ألِبَشَرٍ كان الهيكلُ أم لغيره، المُهمّ أن عيون السجّانين لا تعرف الفرق!
ورجلٌ كقميصٍ مُهملٍ في خزانة أحد الأثرياء، يعيشُ على أملِ الطلوعِ للنور، والمكبُّ حتمًا مثواه الأخير! "
• الأب
صباحٌ كغيرِه، مُمِلٌ بطبعه يهيمُ في الرتابة، وشقيٌّ أنا عاشقٌ للتغيير! تأتي شمسُه بادئةً لأحداث اليوم، كما يعلن الأذانُ معركة الإفطار!
نشاطي مليحٌ حسنُ الظهورِ تُبرزُ ملامحه قدمايَ سريعتا الخطو!
نزولي من الطابق العلويِّ وصوتُ خطواتي على الدرج نذيرُ شؤمٍ لكسالى المنزل، أجزُم أن أفكارهم في ذاك الوقتِ على شاكلة: "ما بالهُ يؤرقُ مضجعنا، إنها السادسة!"
نعم، كُسالى!
في العُرف والعاداتِ أوقاتٌ معينة لحضور الضيوف، لا أحد يدري من جَدْولَ تلك الأزمنة، لكِن ربما فُطِرَ اليوم على تقسيم نفسه بعدلٍ كما فُطرِنا على الإسلام!
خالفَ الجرس الذي دُقّ في تلك اللحظة كل العاداتِ والتقاليد، أراهُ هناك يُعنِّف قوانين الطبيعة بندًا بندًا!
دبَّ الخوف في أوصالي، واستيقاظ أولئك الكسالى أكَّد مخاوفي، هذا الجرسُ والصراخ الغاضب الذي تلاه أنبأني أنَّ خطبًا قد جرى.
بخطوٍ مُتثاقل على غير العادة -كما كل شيءٍ في هذا الصباح- ذهبتُ لأفتح الباب، النظرة الأولى لما خلفه ربما قد أدهشتني، ظننتُ النجوم في الصباح خرافة، حتى رأيتها أمامي في السادسة!
شُرطيّان كأن الشيطان ترك بعضًا منه على وجهيهما، تمعُّضٌ مُريب، خِلتُ منهُ أنني قتلتُ لهما حبيبًا!
فأما القتْلُ فحقيقة، وأمّا موقفي فظننته فقرةً في نصٍ سيرياليٍّ من كاتب مغمور!
الناظرُ لمشهدنا كمن يرى قطعةً من فيلم، هكذا تخيلتُ المشهد، وما ظننتُ أن أكون أنا الجاني!
الأمر الآخر الذي علمتُه، هو أنَّ قبضاتٍ انتشلت أكتافي، وإذ بي أُزج في السجن بتهمة القتل!
•• الابن
كُلُّ شيءٍ حدث بسُرعة، صباحي لم أُدرِك منهُ شيئًا لأصِفه، كلُّ ما أيقظني هو جرس المنزل المزعج.
نِمتُ على إلحاح والدي بأن "أخمد" على حد قوله، وصحوتُ عليه وهو قاتِل، كما يكرهُ البشر الموت تماما، أمقَتُّ أبي في تلك اللحظة!
•
نظرةٌ من ابني لم أفهمها، يشاءُ المرءُ حين يدرك أنَّ الموت قد دنا، أن تكون لمحاتهُ الأخيرة من أحبابه، شطرًا من بَيْتٍ عطوف، أو ندفة ثلجٍ من شتاءٍ مُشفِق، ورغم أنفِ الفصول، رأيتُ ابني معكّر الفصل، يرمُقني بنظرةٍ عاصفة!
في قسمِ الشرطة ظهرت الحقيقة، اسمي على سجلّات السفاحين مُلقًى، ورقٌ عتيق كُتِب على رأسه اسمي، ترقُد حروفه كما ترقد اللعبة المهجورة في قعرِ الصندوق، أردَوا اسمي قتيلًا في شهادات الوفاة، أرادوني أن ألحقُ كوم الجثث الذي قتلتُه كما قد زُعِم!
لُفِّقت علي التهمةُ بسلاسة، لا داعي للمحكمة حين يكونُ الظالمُ أوحد في نظر الجميع، والجميع مظاليم!
صراخهم في القسم يُحشر بين الطوب فيفلق آذانه، فما بالهم برأسي الرخوِ المبتلّ، ذاك الذي هطل عليه مطر الهمِّ بماءٍ راكد!
المحكمةُ فرضٌ لترتسِم تضاريس التهمة، في أرضها تائهٌ أنا، وينادونني سيَّدها!
هناك رأيتُ ابني مرةً أخرى.
••
يداهُ اللتان كان يحتضنني بهما يومًا، تلك التي باتت يضرجها الدماء، يحتضن بهما القضبان الآن في قاعة المحكمة.
كلهفتي حين طفولتي منتظرًا أن يعود من العمل، أنتظر الآن حُكْم إعدامه.
ضربة القاضي لمطرقته كان ختمًا يوثق كراهيتي له في قلبي، أُحرق ورقه العتيق عندي وحملت شتائمي رماده إلى مسامعه، لأبي -وليته ما كان- شأنٌ عندي كشأنِ الغريب إذا ما اعتدى!
• في الزنزانةِ دنيا أُخرى، عالمٌ ربما كان ضيق السوارِ على خاصرة الروح لا الجسد، وزاد ضيقه أنَّ الظلم حطّ برحلهِ فوقي، وأمتِعَتُه الضيم والقهر!
صدمتي بصغيري فاقت كل ما حدث، أتجُرُّ شمسُ الصباح معها المشاعر، ذاهبةً بما أسرّ الليل؟ أمْ أنَّ ما بيني وبين ابني بيتٌ من عنكبوت، ظُلمتُ فبان وهنُه!
بريءٌ لطيف ينادي "يا أبِّي دثرني!" هو ذاتُه من زمّلني بعدها بلحافٍ من موت!
عشرون سنةً في الزنزانة، أعلم حتمًا أن بعدها رحيلي، كفيلةٌ لأعلم أن القضبان حتمًا تُخبئ الكثير!
عشرونَ جعلتني أقتنع أني رجلٌ كقميصٍ مُهملٍ في خزانة أحد الأثرياء، يعيشُ على أملِ الطلوعِ للنور، والمكبُّ حتمًا مثواه الأخير!
يومُ الإعدام كان فُرصةً للتكفير عمّا أحدث اليأسُ من ذنوب، دعوا الموت فإنُّه قد بات نسيجا في جسد الواقع، رحمةٌ يرمُقها صغيري كفيلةٌ أن أموت بسلام!
في المنصة ألمحه، بين الملأِ يصُبّ تركيزه علي، وعينهُ هناك تسردُ ما طُبع على صدره من حقد، قالها وقرأتُها من شفاهه..
"إني أكرهك"
فكانت هي ما قتلني قبل أن أُقتل!
دعوا حبل المشنقةِ فإنه لا يُزهق الروح، لسانه هو ما التفّ حول رقبتي!
#بدر_الزمان
#أحمد_أبوبكر