من القواعد الهامة التي دلت عليها الشريعة في فقه الموازنات :
( 1 ) "إنه مهما كان حكم الاضطرار، فإن الأصل لا يُهدر أبداً". فالأصل أن الشرع قد بين حسن أشياء وسوء أشياء، وبناء عليه فالأصل أن الشرع قد أمر بأشياء ونهى عن أشياء، فثبت أن الشرع جاء مراعيا لأشياء كما أنه قد أهدر أشياء .
وهذا "الأصل" ينبغى دائما أن يظل هو المرتكز الذى يدور الإنسان حوله، ويرجع إليه. فمهما ابتعد عنه قليلا - على سبيل الاستثناء – إلا أنه لابد أن يبقى على صلة به. لذلك فلا يجوز أن يُهدم الأصل، أو يخفى، أو يُقال ضده تحت أي ظرف. فتبقي الأحكام الأصلية مرتكزا أساسياً فى فهم التعامل مع كل وضع مستجد، ويكون نسيان الأصل أو غيابه مما يؤدى إلى خلل فى الموازين، حتى حين يتعامل الإنسان مع استثناءات طارئة تغير - في ظرف معين - حكم الأصل .
إن الإنسان لو أشرف على الهلاك جوعاً، ولم يجد غير ميتة أو لحم خنزير، وإذا لم يأكل منه مات، فإن حكم أكله يتحول إلى الوجوب، لأنه سيموت بعدم أكله. لكن التساؤل الذي نريد طرحه هنا، عندما تغير حكمه في حق ذلك الإنسان من حرام إلى واجب، مع بعد المسافة ما بين التحريم والوجوب، هل تمت إزالة آثار الحكم بالتحريم بالكلية ؟.. لا لم تزل، بل بقيت هناك مراعاة له، لذلك لا يأكل منه إلا بقدر ما يحفظ الحياة، فلا يأكل حتى يشبع، لأنه لا يتعامل معه بالحل الأصلي، بل بحل طارئ على سبيل الاستثناء لأجل حفظ الحياة، ويبقي هناك رابط مع الحكم الأصلي، الذي هو التحريم فلا يأكل بعد تناول ما يحفظ حياته، لأن الأصل بقي هو المرتكز الذي ندور حوله ولا يجوز أبداً أن نفقد صلتنا به .
وإذا وصل أحد ما فى مرحلة من المراحل، أو فى تطبيق من التطبيقات، إلى أن يُهدر الحكم الأصلي، أو يُغيب، أو يُعارض، فإن سياسته هذه لا تتسم بالشرعية. فمع أن السياسة الشرعية تتضمن كما سبق التطبيق الأوسع لفقه الموازنات والترجيحات، إلا أن الشرع يقرر أنه في ظل الموازنة والترجيح، وانتقال الحكم من الإلزام بالمنع إلى الإلزام بالفعل يبقى للأصل أثره .
وهذا المعنى الذي نذكره سار فى أحكام الشريعة، فإذا فقد الإنسان الماء وجب عليه التيمم لتصح صلاته، لكنه إذا وُجد الماء وهو فى الصلاة لزمه أن يخرج من الصلاة التي تيمم لها، ويتوضأ ثم يستأنف الصلاة، لأن الشرع الذي أمره هنا أن يصلي بهذا التيمم لم ينفصل انفصالاً كاملا عن الأصل، الذي هو وجوب التطهر للصلاة بالماء، ووجوب طلب الماء لذلك مهما أمكن .
وما ذكرناه إنما هو من ضرب الأمثلة من أكثر من باب، كي تستقر القاعدة فى النفس، وسنجد لهذه القاعدة فى كل استثناء تطبيق، وفي كل تطبيق معنى، لذلك تقرر عند أهل العلم أن "الضرورة تقدر بقدرها" [موسوعة القواعد الفقهية، للبورنو - 1/61] وإنما ذاك لكونها ضرورة تُخرج عن الأصل .
( 2 ) كما أنه "لا بد من السعي فى إزالة أسباب الضرورة". ذلك لأننا نتعامل معها استثناء على أنها ضرورة، وليس على أنها أصل يمكن قبوله بشكل دائم وطبيعي، فيترتب على ذلك وجوب السعي فى رفع أسباب الضرورة، والعمل على العودة لحكم الأصل في أقرب فرصة ممكنة، وإلا كان التفريط في هذا السعي مما ينزع الشرعية عن الممارسة الاستثنائية .
رسالة ( مبادئ في السياسة الشرعية ) للشيخ أشرف عبدالمنعم
http://gabhasalafia.com/archives/7380#.WtZrZdHRaf0