"دخلتُ على البخاريِّ فقلت: يا أبا عبد الله هذا رجلٌ مقبول بخراسان خصوصًا في هذه المدينة، وقد لجَّ في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يُكلمه فيه فما ترى؟ فقبض البخاريُّ على لحيته ثم قرأ: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 44]، اللهمَّ إنك تعلم أنِّي لم أُرد المقام بنيسابورَ أشرًا ولا بطرًا ولا طلبًا للرياسة، وقد قصدني هذا الرجل [يقصد الذُّهليّ] حسدًا لما آتاني الله لا غير، ثم قال لي: يا أحمدُ إني خارجٌ غدًا لتتخلَّصوا من حديثه لأجلي، فقال أحمد بن سلمة: فأخبرت جماعة من أصحابنا بخروج الإمام، فوالله ما شيَّعه غيري، وكنت معه حين خرج من البلد.
وبالفعل خرج البخاريُّ من نيسابور، واتجه إلى مرو من أعمال خراسان؛ ليواصل رحلته العلميَّة، فإذا بالذُّهليِّ يواصل هجومه الشَّرس على البخاريِّ، حتى بعد خروجه من نيسابور، حيثُ أخذ في الكتابة لسائر بلاد ومدن خراسانَ يحذِّرهم من البخاريِّ، وأنه يتبنَّى قول اللفظيَّة، وقد آتت هذه الحملة أُكُلها السّيّء، فكلما توجه البخاريُّ إلى بلد في خراسان وجد الناس ثائرين عليه، وكُتب الذُّهليُّ في حقه تنهال على علماء المدن وأمرائها فتُوغر الصدور وتُحرِّك الشكوك وتُسيء الظنون، حتى وصلت حدَّة الحملات التشويهية ضد البخاري، لأن يقدم رجلان من أكبر علماء الرجال في الحديث، وهما أبو حاتم وأبو زُرعة لأن يقولا: "إنَّ البخاريَّ متروكٌ"، ولا يكتبانِ حديثه بسبب مسألة اللَّفظ، وسبحانَ الله! لا أدري كيف أقدم أبو حاتم وأبو زُرعة على مثل هذه المقولة؟ وكيف تجاسرا عليه؟ والبخاريُّ حامل لواء الصناعة، ومقدم أهل السنة والجماعة، والبخاريُّ أعلى منهما كعبًا في كل باب في الحديث والفقه والحفظ، قال الذَّهبيُّ في السير: "كلامُ الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنَّه لعداوةٍ أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين".
وكان البخاريُّ يؤكد في كلِّ مكان أنه لم يقل إنَّ لفظه بالقرآن مخلوق، فعندما سأله الحافظُ أبو عمرو الخفاف عن هذه المسألة، فقال له: "يا أبا عمرٍو، احفظ ما أقولُ لك: مَن زعم مِن أهل نَيسابورَ وقوس والرِّي وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة، أنِّي قلت: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو كذَّاب، فإني لم أقله، إلا أنِّي قلت: أفعال العباد مخلوقة"، ومعنى هذا التصريح أنَّ الذُّهليَّ الذي خاض في حقِّ البخاريِّ وشوَّه سيرته ومكانته، قد بنى حملته على البخاريّ على لازم قول البخاريِّ أنَّ الأفعال مخلوقة، فقال الذهبيُّ: إنَّ البخاري يقول: إنَّ ألفاظنا من أفعالنا وأفعالنا مخلوقة، إذًا هو يقول إن لفظي بالقرآن مخلوق، ولازمُ القول ليس بلازم، كما هو مذهب جمهور المحققين من العلماء، إلا إذا التزمه صاحب القول، أما إذا نفاه وتبرأ منه فلا يلزمه ولا يشنع عليه بسببه، قال الذَّهبيُّ: ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نُكفِّر مسلمًا موحدًا بلازم قوله وهو يفر من ذلك اللازم ويُنَزِّه ويعظم الرب، لذلك كان البخاريُّ ينفي في كلِّ موطن هذه التهمة عن نفسه ويبرأ منها.
وفاته
ظل البخاريُّ ينتقل من بلد لآخر، وكلَّما حلَّ ببلد طاردته الشائعاتُ، وكتب الذُّهليُّ تلاحقه في كلِّ مكان نزل به، حتى اضطرَّ في النهاية للنزول عند أحد أقاربه ببلدة خرتنك، الواقعة بين بخارى وسمرقند، لتنالَ هذه البلدة شرفاً عظيماً بأن قضى بها الإمامُ آخر أيام حياته، وقد ضاقت عليه الدنيا بما لاقاه من أهلها، وخاصة من رفقاء الدرب وأصحاب الحديث الَّذين حسدوه، وكان في شهر رمضانَ من سنة 256 هجريَّة، فقضى ليالي رمضانَ الأخيرة في القيام والدُّعاء والمناجاة والشَّكوى لربِّ الأرض والسَّموات، وكان غالبُ دعائه في تلك الليالي: "اللَّهمَّ إنَّ الأرض قد ضاقت عليَّ، فاقبضني إليك يا ربَّ العالمين".
وفي ليلة الفطر من سنة 256 هجرية، صعدت الروح الطاهرة إلى بارئها بعد صلاة العشاء، فدُفن من صبيحة الفطر، وقد فاحت رائحةٌ رائعة لم يَشَمَّ الناس مثلها من قبل من قبره، ظَلَّت تفوحُ لفترة طويلة، كما ما زال علمه يفوح ويروح في كل مكان في العالم، فأين حسَّادُهُ؟ وأين الوشاة والساعون فيه؟ طواهم النسيان، وقتلتهم أحقادهم، وبقي ذكر البخاري إلي اليوم، وحتى تقوم الساعة، فهنيئاً له على ما قدَّم للأمة الإسلامية، وسلامٌ عليه إلي يوم الدين.
————————————
المراجع والمصادر
سير أعلام النبلاء.
طبقات الحفاظ.
تذكرة الحفاظ.
صفة الصفوة.
البداية والنهاية.
مقدمة الفتح.
نخبة الفكر.
وفيات الأعيان.
تاريخ بغداد.
تهذيب الأسماء واللغات.
تاريخ بغداد.
شذرات الذهب.
النجوم الزاهرة.
الإمام البخاريُّ (1/2) حياتُه وأثرُه العلميُّ ومحنتُه
وبالفعل خرج البخاريُّ من نيسابور، واتجه إلى مرو من أعمال خراسان؛ ليواصل رحلته العلميَّة، فإذا بالذُّهليِّ يواصل هجومه الشَّرس على البخاريِّ، حتى بعد خروجه من نيسابور، حيثُ أخذ في الكتابة لسائر بلاد ومدن خراسانَ يحذِّرهم من البخاريِّ، وأنه يتبنَّى قول اللفظيَّة، وقد آتت هذه الحملة أُكُلها السّيّء، فكلما توجه البخاريُّ إلى بلد في خراسان وجد الناس ثائرين عليه، وكُتب الذُّهليُّ في حقه تنهال على علماء المدن وأمرائها فتُوغر الصدور وتُحرِّك الشكوك وتُسيء الظنون، حتى وصلت حدَّة الحملات التشويهية ضد البخاري، لأن يقدم رجلان من أكبر علماء الرجال في الحديث، وهما أبو حاتم وأبو زُرعة لأن يقولا: "إنَّ البخاريَّ متروكٌ"، ولا يكتبانِ حديثه بسبب مسألة اللَّفظ، وسبحانَ الله! لا أدري كيف أقدم أبو حاتم وأبو زُرعة على مثل هذه المقولة؟ وكيف تجاسرا عليه؟ والبخاريُّ حامل لواء الصناعة، ومقدم أهل السنة والجماعة، والبخاريُّ أعلى منهما كعبًا في كل باب في الحديث والفقه والحفظ، قال الذَّهبيُّ في السير: "كلامُ الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنَّه لعداوةٍ أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين".
وكان البخاريُّ يؤكد في كلِّ مكان أنه لم يقل إنَّ لفظه بالقرآن مخلوق، فعندما سأله الحافظُ أبو عمرو الخفاف عن هذه المسألة، فقال له: "يا أبا عمرٍو، احفظ ما أقولُ لك: مَن زعم مِن أهل نَيسابورَ وقوس والرِّي وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة، أنِّي قلت: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو كذَّاب، فإني لم أقله، إلا أنِّي قلت: أفعال العباد مخلوقة"، ومعنى هذا التصريح أنَّ الذُّهليَّ الذي خاض في حقِّ البخاريِّ وشوَّه سيرته ومكانته، قد بنى حملته على البخاريّ على لازم قول البخاريِّ أنَّ الأفعال مخلوقة، فقال الذهبيُّ: إنَّ البخاري يقول: إنَّ ألفاظنا من أفعالنا وأفعالنا مخلوقة، إذًا هو يقول إن لفظي بالقرآن مخلوق، ولازمُ القول ليس بلازم، كما هو مذهب جمهور المحققين من العلماء، إلا إذا التزمه صاحب القول، أما إذا نفاه وتبرأ منه فلا يلزمه ولا يشنع عليه بسببه، قال الذَّهبيُّ: ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نُكفِّر مسلمًا موحدًا بلازم قوله وهو يفر من ذلك اللازم ويُنَزِّه ويعظم الرب، لذلك كان البخاريُّ ينفي في كلِّ موطن هذه التهمة عن نفسه ويبرأ منها.
وفاته
ظل البخاريُّ ينتقل من بلد لآخر، وكلَّما حلَّ ببلد طاردته الشائعاتُ، وكتب الذُّهليُّ تلاحقه في كلِّ مكان نزل به، حتى اضطرَّ في النهاية للنزول عند أحد أقاربه ببلدة خرتنك، الواقعة بين بخارى وسمرقند، لتنالَ هذه البلدة شرفاً عظيماً بأن قضى بها الإمامُ آخر أيام حياته، وقد ضاقت عليه الدنيا بما لاقاه من أهلها، وخاصة من رفقاء الدرب وأصحاب الحديث الَّذين حسدوه، وكان في شهر رمضانَ من سنة 256 هجريَّة، فقضى ليالي رمضانَ الأخيرة في القيام والدُّعاء والمناجاة والشَّكوى لربِّ الأرض والسَّموات، وكان غالبُ دعائه في تلك الليالي: "اللَّهمَّ إنَّ الأرض قد ضاقت عليَّ، فاقبضني إليك يا ربَّ العالمين".
وفي ليلة الفطر من سنة 256 هجرية، صعدت الروح الطاهرة إلى بارئها بعد صلاة العشاء، فدُفن من صبيحة الفطر، وقد فاحت رائحةٌ رائعة لم يَشَمَّ الناس مثلها من قبل من قبره، ظَلَّت تفوحُ لفترة طويلة، كما ما زال علمه يفوح ويروح في كل مكان في العالم، فأين حسَّادُهُ؟ وأين الوشاة والساعون فيه؟ طواهم النسيان، وقتلتهم أحقادهم، وبقي ذكر البخاري إلي اليوم، وحتى تقوم الساعة، فهنيئاً له على ما قدَّم للأمة الإسلامية، وسلامٌ عليه إلي يوم الدين.
————————————
المراجع والمصادر
سير أعلام النبلاء.
طبقات الحفاظ.
تذكرة الحفاظ.
صفة الصفوة.
البداية والنهاية.
مقدمة الفتح.
نخبة الفكر.
وفيات الأعيان.
تاريخ بغداد.
تهذيب الأسماء واللغات.
تاريخ بغداد.
شذرات الذهب.
النجوم الزاهرة.
الإمام البخاريُّ (1/2) حياتُه وأثرُه العلميُّ ومحنتُه