هل الخلاف بين جماعات الجهاد خصوصاً هو خلاف تنوع أم خلاف تضاد؟؟
هذا حديث يجري دوماً، ثم هو يجري اليوم، وهناك جزء من الحديث هو تقديرات نفوس لا علم، وتقديرات تبنى على مواقف صغار وأتباع لا قادة وعلماء، ومن هنا يجب على العلماء والقادة أن يتكلموا بعلم وعدل في هذا الباب، لئلا نساق بنوازع النفوس وردات فعل الصغار والجنود، وحينها يقع ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ولولا وجوب البيان في مثل هذه المسألة ما تكلم فيها المرء، وذلك بعداً عن الخلافات التي تقوم بين الإخوان علنا، فالاجتناب لهذه الخلافات طريق اتخذته ما استطعت لذلك سبيلاً.
في موقفي الذي اتخذته تدينا مع دعوى الخلافة التي أعلنها البغدادي قلت مراراً بأنه لولا التكفير البدعي الضال، وسفك الدماء للنفوس المسلمة، بله المجاهدة وجعل هذا دينا وسبيلاً لما كان الخلاف حول موضوع الخلافة إلا فقهياً يمكن احتوائه، والمرء يقول هذا الكلام اليوم، وذلك بعد ذهاب شوكة القوم، وانتثارهم شذر مذر، ولكن القوم حولوا هذا الخلاف الفقهي -أي موضوع الخلافة- خلافاً عقدياً، كفروا الناس عليه، وقتلوا المخالفين لهم في هذا الباب ردة، وهذا أمر تطور من تعظيم مسألة فوق ما هي عليه إلى أن صارت عندهم ركنا، بل من أهم أركان الدين، وفي هذا الباب يكون الدليل إما بالتصريح، وإما بجمع الأجزاء بالاستقراء ليقع الحكم العام، ولذلك وجب تقعيد الخلاف علمياً، ورد كل من يحاول تعظيمه وإخراجه عن سياقه، حتى لا يقع الشر، والذي يبدأ بتشريع الافتراق ثم الاقتتال، لأن الخلاف جذري وعميق بل وعقدي كما يريد البعض الحكم عليه.
واقع الأمر أن الخلاف لا يعدو خلافاً فقهياً في مسائل، وهذا من باب التنزل، وإلا فالخلاف إما إداري وإما سياسي فقط، أي يتعلق بإدارة الحال على وجه من وجوه الحكمة، وكل محاولة لإخراج الخلاف عن هذا الباب ضلال يجب رده والوقوف أمامه بكل قوة بلا جمجمة، والذين يحاولون تأصيل هذا الخلاف على وجه يوجب الافتراق، أو وجوب توبة المخالف ليكون أخاً هو ضلال وانحراف، بل هو من باب الغلو الضال الممنوع.
نعم، هناك من يحاول تأصيل هذا الخلاف على وجه خلاف التضاد، بل السنة والبدعة، ليرتقي عند البعض على معنى الردة والكفر، فيأتي الناظر ليقيم الخلاف على ما يقوله هؤلاء السفهاء، فيقول : انظروا إلى ما تقوله هذه الجماعة، فهو خلاف حقيقي عظيم! وهذا خطأ في تقويم الموضوع ومعالجته، سواء من جهة العلم أو من جهة الحكمة، لأن طالب العلم لا يوافق هؤلاء الأقزام في تضخيم الخلاف بين المسلمين والمجاهدين، بل يردعهم، ويسكتهم، ويطلب من علية القوم والقادة الضرب على يد هؤلاء، إبعاداً لشرهم.
والمقصود أن بعض الصغار يحبون تعظيم الخلاف، فيطلقون عليه أوصافاً مبناها على الخصومة النفسية والجهل بمراتب الأفعال والأحكام، فنقع نحن في شباكهم ومصايدهم، فنقيم الخلاف من خلال كلام هؤلاء السفهاء والجهلة، وهذا خطأ يجب أن نحذر منه، ومن هنا وجب على أهل العلم والقادة تقديم نموذج أهل السنة في معرفة مراتب الخلاف، وعدم الانسياق مع الغضب النفسي، والذي يستشعره المرء من خلال مظالم يظن أن أخاه في الجماعة الثانية قد أوقعه عليه.
ثم الواجب على أهل العلم الدعوة دوما للوفاق، وعدم الاختلاف، لا تعظيم الخلاف، ووضعه في إطار السوء، والقدح، فالأمة طوال وقتها وهي تعاني التفرق، ولكن يوجد دوما من يحقق القدر الكافي من الوحدة لتحقيق النصر والغلبة ورد المعتدين.
ولذلك كان الواجب في هذا الباب إن وجد طالب العلم خلافاً شديداً بين مسلمين سنة أن لا يطلق الألفاظ التي تزيد الفرقة، بل يجمع بينهما بجوامع الحب، ونقاط الاتفاق العظيمة، فكلهم يريد إقامة الشرع، وتحقيق حاكميته، وكلهم يريد إقامة شرع الله في الأرض كلها، وهذا قدر عظيم يلتقي عليه أهل التوحيد، وكذلك يجب وضع أمر النبي صلى الله عليه وسلم فوق رؤوسنا منهاجاً نتبعه، وهو المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، وهذا فيه بنيان العلاقات على أساس الإسلام لا غير، وهذا بفضل الله موجود على وجه اليقين عند كل هؤلاء الأخوة، وكل زعم خلافه هو من نزغ الشيطان والنفس.
البناء لا يقوم إلا بعدل الشرع وعلم الفقيه وحكمة العاقل، فلا تضيعوا شيئا من هذا فتفشلوا.
والحمد لله رب العالمين.