البيئة والوسط والمحيط الذي ترعرع فيه، فمحدوديته من محدوديتها.
أمر الخليفة بأن تجعل للشاب إقامة خاصة (=المحيط البديل والوسط الجديد) في بستان مُزهرٍ بالقرب من مدينة الرصافة عند جسر بغداد، ليطل هذا الشاب القادم من الرمال على الجنات الخضراء والماء الرقراق والحُسن، ليخلق له بيئة ووسطًا ومحيطًا جديدًا، ليُرى هل سيتغير لفظه وسلوكه وتهذيبه؟
وبعد مدة من الزمان، وقد بدأ المحيط يعمل في داخله بعد أن بهره ظاهر الوسط الجديد الذي عاش فيه، وهكذا بدأ يظهر في داخله، بسبب محيطه الجديد وبيئته البديلة، ذلك الإنسان الجديد، إنسان المدينة بسلوكه وألفاظه ولباقته ومصطلحاته. لقد استطاع المحيط والوسط أن ينتج شخصًا آخر!
بعدما تأكد الخليفة من أن الزمن الذي يتطلبه التغير داخل المحيط الجديد أصبح كافيا، طلب الشاعر الشاب، صاحب الكلب والتيس سابقا، ليمثل أمامه ويتحفه بقصيدته الجديدة التي تكونت وولدت في هذا المحيط المدني الراقي الجديد. فقال علي بن الجهم قصيدة المشهورة التي تعتبر من عيون الشعر العربي.
قال علي بن الجهم في قصيدته:
عيون المها بين الرصافة والجسرِ
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدن جمرًا على جمرِ
سلمن وأسلمن القلوب كأنما
تشك بأطراف المثقفة السمرِ
وقلن لنا نحن الأهلة إنما
تضيء لمن يسري بليل ولا تقري
إلى آخر القصيدة البديعة الرائقة. فلما انتهى منها أصاب الذهول كل الحضور، ونظروا إلى الخليفة وعيونهم تتساءل: أهذا هو صاحبنا صاحب الكلب والتيس؟! فسكت الخليفة، وكأنه خاف على علي بن الجهم. فقالت له حاشيته: ما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني أخشى على علي بن الجهم أن يذوب رقة!
فانظر كيف تحول الشاب من جاف وغليظ إلى شاب يُخاف أن يذوب رقبة! وهذا كله بسبب محيطه الذي تغير! مع العلم أن هذا الشاب تغير على كِبَر. ومن هنا نعلم لماذا أُمر قاتل المئة نفس التائب أن يهجر محيطه ووسطه السابق ويرحل لوسط ومحيط جديد. إن محيط ووسطك هو أنت!
ومع هذا فلكل قاعدة شواذ، فقد يُبتلى الصالحون الأخيار من الآباء والأمهات، الذين بذلوا الأسباب، بفساد بعض أبنائهم وبناتهم، لأسباب خارج بيتهم الصغيرة وداخلة في البيئة الأكبر: الشارع، المدرسة، الجامعة، القرابات والصداقات...إلخ، وتلك والله مصيبة عظيمة!
لكن هذا لا يخرم القاعدة، فالله جعل لكل شيء أسبابه، ومن أسباب الصلاح والهداية المحيط الهادي والوسط الصالح، ووجود عينات انخرم فيها ذلك لا يطعن في الأصل، فالأصل باقٍ، وانخرام صلاح الأبناء يعود لأسباب مضادة، والله سبحانه يتولى الصالحين وذريتهم ويحفظهم ويرعاهم بتربيتهم ودعائهم.
وفي الوقت نفسه، من لم يُوفق إلى محيط صالح ووسط خيِّرِ ليس لهم العذر أن يفسد وينحرف، والله سبحانه سيحاسبه على ما فعله إذا كان عاقلاً بالغًا مكلفًا حرًا، فكل نفس بما كسبت رهينة، وأنت مسئول عن ما تفعله من الخير والسر، والحسن والقبيح.
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ وَالِداً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ". أسأل الله أن يرزقنا وإياكم صلاح الأولاد والبنات وجميع الذرية، وأن يعيننا على طاعته ببرهم، وأن يعينهم على طاعته ببرنا، وأن يحسن لنا ولهم العاقبة في الأمر كله، ويقينا شر كل شر.
د. عايض بن سعد الدوسري
أمر الخليفة بأن تجعل للشاب إقامة خاصة (=المحيط البديل والوسط الجديد) في بستان مُزهرٍ بالقرب من مدينة الرصافة عند جسر بغداد، ليطل هذا الشاب القادم من الرمال على الجنات الخضراء والماء الرقراق والحُسن، ليخلق له بيئة ووسطًا ومحيطًا جديدًا، ليُرى هل سيتغير لفظه وسلوكه وتهذيبه؟
وبعد مدة من الزمان، وقد بدأ المحيط يعمل في داخله بعد أن بهره ظاهر الوسط الجديد الذي عاش فيه، وهكذا بدأ يظهر في داخله، بسبب محيطه الجديد وبيئته البديلة، ذلك الإنسان الجديد، إنسان المدينة بسلوكه وألفاظه ولباقته ومصطلحاته. لقد استطاع المحيط والوسط أن ينتج شخصًا آخر!
بعدما تأكد الخليفة من أن الزمن الذي يتطلبه التغير داخل المحيط الجديد أصبح كافيا، طلب الشاعر الشاب، صاحب الكلب والتيس سابقا، ليمثل أمامه ويتحفه بقصيدته الجديدة التي تكونت وولدت في هذا المحيط المدني الراقي الجديد. فقال علي بن الجهم قصيدة المشهورة التي تعتبر من عيون الشعر العربي.
قال علي بن الجهم في قصيدته:
عيون المها بين الرصافة والجسرِ
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدن جمرًا على جمرِ
سلمن وأسلمن القلوب كأنما
تشك بأطراف المثقفة السمرِ
وقلن لنا نحن الأهلة إنما
تضيء لمن يسري بليل ولا تقري
إلى آخر القصيدة البديعة الرائقة. فلما انتهى منها أصاب الذهول كل الحضور، ونظروا إلى الخليفة وعيونهم تتساءل: أهذا هو صاحبنا صاحب الكلب والتيس؟! فسكت الخليفة، وكأنه خاف على علي بن الجهم. فقالت له حاشيته: ما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني أخشى على علي بن الجهم أن يذوب رقة!
فانظر كيف تحول الشاب من جاف وغليظ إلى شاب يُخاف أن يذوب رقبة! وهذا كله بسبب محيطه الذي تغير! مع العلم أن هذا الشاب تغير على كِبَر. ومن هنا نعلم لماذا أُمر قاتل المئة نفس التائب أن يهجر محيطه ووسطه السابق ويرحل لوسط ومحيط جديد. إن محيط ووسطك هو أنت!
ومع هذا فلكل قاعدة شواذ، فقد يُبتلى الصالحون الأخيار من الآباء والأمهات، الذين بذلوا الأسباب، بفساد بعض أبنائهم وبناتهم، لأسباب خارج بيتهم الصغيرة وداخلة في البيئة الأكبر: الشارع، المدرسة، الجامعة، القرابات والصداقات...إلخ، وتلك والله مصيبة عظيمة!
لكن هذا لا يخرم القاعدة، فالله جعل لكل شيء أسبابه، ومن أسباب الصلاح والهداية المحيط الهادي والوسط الصالح، ووجود عينات انخرم فيها ذلك لا يطعن في الأصل، فالأصل باقٍ، وانخرام صلاح الأبناء يعود لأسباب مضادة، والله سبحانه يتولى الصالحين وذريتهم ويحفظهم ويرعاهم بتربيتهم ودعائهم.
وفي الوقت نفسه، من لم يُوفق إلى محيط صالح ووسط خيِّرِ ليس لهم العذر أن يفسد وينحرف، والله سبحانه سيحاسبه على ما فعله إذا كان عاقلاً بالغًا مكلفًا حرًا، فكل نفس بما كسبت رهينة، وأنت مسئول عن ما تفعله من الخير والسر، والحسن والقبيح.
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ وَالِداً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ". أسأل الله أن يرزقنا وإياكم صلاح الأولاد والبنات وجميع الذرية، وأن يعيننا على طاعته ببرهم، وأن يعينهم على طاعته ببرنا، وأن يحسن لنا ولهم العاقبة في الأمر كله، ويقينا شر كل شر.
د. عايض بن سعد الدوسري