أنواع السعادات التي تُؤْثِرُها النفوسُ ثلاثة:
* سعادةٌ خارجيةٌ عن ذات الإنسان، بل هي مستعارةٌ له من غيره، تزولُ باسترداد العاريَّة، وهي سعادةُ المال والجاه وتوابعهما، فبينا المرءُ بها سعيدٌ ملحوظٌ بالعناية مرموقٌ بالأبصار، إذ أصبح في اليوم الواحد أذلَّ مِن وتدٍ بقاعٍ يُشَجِّجُ رأسَه بالفِهْر واجي.
فالسعادةُ والفرحُ بهذه كفرح الأقرع بجُمَّة ابن عمِّه، والجمالُ بها كجمال المرء بثيابه وبِزَّته، فإذا جاوز بصرُك كسوتَه فليس وراء عَبّادان قرية .
السعادة الثانية: سعادةٌ في جسمه وبدنه؛ كصحته واعتدال مِزاجه، وتناسُب أعضائه، وحُسْن تركيبه، وصفاء لونه، وقوَّة أعصابه .
فهذه ألصقُ به من الأولى، ولكن هي في الحقيقة خارجةٌ عن ذاته وحقيقته؛ فإنّ الإنسانَ إنسانٌ بروحه وقلبه لا بجسمه وبدنه..
* السعادة الثالثة: هي السعادةُ الحقيقية، وهي سعادةٌ نفسانيةٌ روحيةٌ قلبية، وهي سعادةُ العلم النافع وثمرتُه؛ فإنها هي الباقيةُ على تقلُّب الأحوال، والمُصاحِبةُ للعبد في جميع أسفاره، وفي دُوره الثلاثة- أعني دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار-، وبها يترقّى في معارج الفضل ودرجات الكمال.
أمّا الأولى، فإنما تصحبُه في البقعة التي فيها مالُه وجاهُه.
والثانية، فعُرضةٌ للزوال والتبدُّل بِنَكْس الخَلْق والردِّ إلى الضَّعف.
فلا سعادةَ في الحقيقة إلا هذه الثالثة، التي كلَّما طال عليها الأمدُ ازدادت قوةً وعلوًّا، وإذا عُدِمَ المالُ والجاهُ فهي مالُ العبد وجاهُه، وتظهرُ قوتهُا وأثرُها بعد مفارقة البدن إذا انقطعت السعادتان الأوَّلتان .
وهذه السعادةُ لا يعرفُ قَدْرَها ويبعثُ على طلبها إلا العلمُ بها؛ فعادت السعادةُ كلُّها إلى العلم وما يقتضيه، والله يوفِّقُ من يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
وإنما رَغِبَ أكثرُ الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها لوعورة طريقها، ومرارة مَباديها، وتعب تحصيلها، وأنها لا تنالُ إلا على جسر من التعب ؛ فإنها لا تُحَصَّلُ إلا بالجدِّ المحض، بخلاف الأوَّلتَين ، فإنهما حظٌّ قد يَحُوزُه غيرُ طالبه، وبَخْتٌ قد يحرزُه غيرُ جالبِه من ميراثٍ أو هبةٍ أو غير ذلك، وأمّا سعادةُ العلم فلا يورثُك إياها إلا بذلُ الوسع، وصدقُ الطَّلب، وصحةُ النية.
ومن طمَحَت همَّته إلى الأمور العَلِيَّة، فواجبٌ عليه أن يَسُدَّ على همَّته الطُّرقَ الدنيَّة.
وهذه السعادةُ وإن كانت في ابتدائها لا تنفكُّ عن ضربٍ من المشقَّة والكَرْه والتأذِّي، فإنها متى أُكرِهَت النفسُ عليها، وسِيقَت طائعةً وكارهةً إليها، وصبرَت على لأوائها وشدَّتها، أفضتْ منها إلى رياضٍ مُونِقَة، ومقاعدِ صدقٍ ومقامٍ كريم، تجدُ كلَّ لذَّةٍ دونها كلذَّة لعب الصَّبيِّ بالعصفور بالنسبة إلى لذَّة الملوك..
فالمكارمُ مَنُوطةٌ بالمكاره، والسعادةُ لا يُعْبَرُ إليها إلا على جسر المشقّة، ولا تُقْطَعُ مسافتُها إلا في سفينة الجدِّ والاجتهاد..
ولولا جهلُ الأكثرين بحلاوة هذه اللذَّة وعِظَم قدرها لتَجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّت بحجابٍ من المكاره، وحُجِبوا عنها بحجابٍ من الجهل؛ ليختصَّ اللهُ بها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم.
ابن القيم | مفتاح دار السعادة
* سعادةٌ خارجيةٌ عن ذات الإنسان، بل هي مستعارةٌ له من غيره، تزولُ باسترداد العاريَّة، وهي سعادةُ المال والجاه وتوابعهما، فبينا المرءُ بها سعيدٌ ملحوظٌ بالعناية مرموقٌ بالأبصار، إذ أصبح في اليوم الواحد أذلَّ مِن وتدٍ بقاعٍ يُشَجِّجُ رأسَه بالفِهْر واجي.
فالسعادةُ والفرحُ بهذه كفرح الأقرع بجُمَّة ابن عمِّه، والجمالُ بها كجمال المرء بثيابه وبِزَّته، فإذا جاوز بصرُك كسوتَه فليس وراء عَبّادان قرية .
السعادة الثانية: سعادةٌ في جسمه وبدنه؛ كصحته واعتدال مِزاجه، وتناسُب أعضائه، وحُسْن تركيبه، وصفاء لونه، وقوَّة أعصابه .
فهذه ألصقُ به من الأولى، ولكن هي في الحقيقة خارجةٌ عن ذاته وحقيقته؛ فإنّ الإنسانَ إنسانٌ بروحه وقلبه لا بجسمه وبدنه..
* السعادة الثالثة: هي السعادةُ الحقيقية، وهي سعادةٌ نفسانيةٌ روحيةٌ قلبية، وهي سعادةُ العلم النافع وثمرتُه؛ فإنها هي الباقيةُ على تقلُّب الأحوال، والمُصاحِبةُ للعبد في جميع أسفاره، وفي دُوره الثلاثة- أعني دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار-، وبها يترقّى في معارج الفضل ودرجات الكمال.
أمّا الأولى، فإنما تصحبُه في البقعة التي فيها مالُه وجاهُه.
والثانية، فعُرضةٌ للزوال والتبدُّل بِنَكْس الخَلْق والردِّ إلى الضَّعف.
فلا سعادةَ في الحقيقة إلا هذه الثالثة، التي كلَّما طال عليها الأمدُ ازدادت قوةً وعلوًّا، وإذا عُدِمَ المالُ والجاهُ فهي مالُ العبد وجاهُه، وتظهرُ قوتهُا وأثرُها بعد مفارقة البدن إذا انقطعت السعادتان الأوَّلتان .
وهذه السعادةُ لا يعرفُ قَدْرَها ويبعثُ على طلبها إلا العلمُ بها؛ فعادت السعادةُ كلُّها إلى العلم وما يقتضيه، والله يوفِّقُ من يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
وإنما رَغِبَ أكثرُ الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها لوعورة طريقها، ومرارة مَباديها، وتعب تحصيلها، وأنها لا تنالُ إلا على جسر من التعب ؛ فإنها لا تُحَصَّلُ إلا بالجدِّ المحض، بخلاف الأوَّلتَين ، فإنهما حظٌّ قد يَحُوزُه غيرُ طالبه، وبَخْتٌ قد يحرزُه غيرُ جالبِه من ميراثٍ أو هبةٍ أو غير ذلك، وأمّا سعادةُ العلم فلا يورثُك إياها إلا بذلُ الوسع، وصدقُ الطَّلب، وصحةُ النية.
ومن طمَحَت همَّته إلى الأمور العَلِيَّة، فواجبٌ عليه أن يَسُدَّ على همَّته الطُّرقَ الدنيَّة.
وهذه السعادةُ وإن كانت في ابتدائها لا تنفكُّ عن ضربٍ من المشقَّة والكَرْه والتأذِّي، فإنها متى أُكرِهَت النفسُ عليها، وسِيقَت طائعةً وكارهةً إليها، وصبرَت على لأوائها وشدَّتها، أفضتْ منها إلى رياضٍ مُونِقَة، ومقاعدِ صدقٍ ومقامٍ كريم، تجدُ كلَّ لذَّةٍ دونها كلذَّة لعب الصَّبيِّ بالعصفور بالنسبة إلى لذَّة الملوك..
فالمكارمُ مَنُوطةٌ بالمكاره، والسعادةُ لا يُعْبَرُ إليها إلا على جسر المشقّة، ولا تُقْطَعُ مسافتُها إلا في سفينة الجدِّ والاجتهاد..
ولولا جهلُ الأكثرين بحلاوة هذه اللذَّة وعِظَم قدرها لتَجالدوا عليها بالسيوف، ولكن حُفَّت بحجابٍ من المكاره، وحُجِبوا عنها بحجابٍ من الجهل؛ ليختصَّ اللهُ بها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم.
ابن القيم | مفتاح دار السعادة