يحتاج الحاكم إلى تقوى الله لكي يرزقه الله الفراسة والبصيرة.. وهكذا كان الخليفة العباسي المعتضد بالله
كان وقَّافا عند حدود الله، فعندما دخل عليه الفقيه أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه رأى حوله من الخدم غلمانا من الروم حسان الوجوه فكأنه اشتبه على المعتضد أنه يقع في الحرام معهم، ففهم المعتضد هذا الظن فخلا به وقال: أيها القاضي والله ما حللت سراويلي على حرام قط.
ومن ذلك أن أحد علماء السلاطين جمع له كتابا فيه رُخَص العلماء، بحيث جمع له في كل أمر قول من أباحه، فاستشار فيه القاضي إسماعيل بن إسحاق الذي بُهِت لما فيه وقال: «يا أمير المؤمنين إنما جمع هذا زنديق. فقال: كيف ؟ فقلت: إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر بتحريق ذلك الكتاب».
وقد أورثته هذه التقوى فراسة قوية وأمورا تعد من الكرامات، من هذا أنه استيقظ مفزوعا فأمر بالقبض على أول مركب فارغة تعبر نهر دجلة وأن يأتوه بصاحبها، ففعلوا، فلما أدخلوه عليه «فحين رآه الملاح كاد يتلف، فصاح عليه صيحة واحدة عظيمة كادت روحه تخرج معها، فقال: أصدقني يا ملعون عن قصتك مع المرأة التي قتلتها وسلبتها اليوم وإلا ضربت عنقك. فتلعثم، وَقَالَ: نعم كنت اليوم سحرا في مشرعتي الفلانية، فنزلت امرأة لم أر مثلها، وعليها ثياب فاخرة، وحلى كثير وجوهر، فطمعت فيها، واحتلت عليها حتى سددت فاها وغرقتها، وأخذت جميع ما كان عليها، ولم أجترئ على حمل سلبها إلى بيتي لئلا يفشو الخبر علىَّ، فعملت على الهرب، وانحدرت الساعة لأمضي إلى واسط، فعوقني هؤلاء الخدم وحملوني.
فقال: وأين الحلي والسلب.
فقال: في صدر السفينة تحت البواري.
فقال المعتضد للخدم: جيئوني به، فمضوا واحضروه وَقَالَ: خذوا الملاح فغرقوه! ففعلوا ثم أمر أن ينادى ببغداد كلها على امرأة خرجت إلى المشرعة الفلانية سحرا وعليها ثياب وحلي يحضر من يعرفها، ويعطي صفة ما كان عليها ويأخذه، فقد تلفت المرأة، فحضر في اليوم الثاني أو الثالث أهل المرأة فأعطوه صفة ما كان عليها، فسلم ذلك إليهم. قَالَ: فقلنا: يا مولاي، أُوحي إليك؟! فقال: رأيت في منامي كأن شيخا أبيض الرأس واللحية والثياب، وهو ينادي: يا أَحْمَد! خذ أول ملاح ينحدر الساعة فاقبض عليه، وقرره خبر المرأة التي قتلها اليوم وسلبها، وأقم عليه الحد فكان ما شهدتم».
ومن فراسته ما توقعه من انهيار أمر الخلافة إذا ما وصلت إلى ابنه المقتدر، وقد صدقت فراسته بالفعل، فقد أورد الخطيب البغدادي عن صافي الحرمي خادم المعتضد قال:
«مشيت يوما بين يدي المعتضد وهو يريد دور الحُرَم، فلما بلغ إلى باب شغب أم المقتدر وقف يسمع ويطلع من خلل في الستر، فإذا هو بالمقتدر -وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها- وهو جالس وحواليه مقدار عشر وصائف من أقرانه في السن، وبين يديه طبق فضة فيه عنقود عنب في وقت فيه العنب عزيز جدا، والصبي يأكل عنبة واحدة ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة على الدور حتى إذا بلغ الدور إليه أكل واحدة مثل ما أكلوا حتى أفنى العنقود، والمعتضد يتميز غيظا.
قال (صافي الحرمي): فرجع ولم يدخل الدار ورأيته مهموما.
فقلت: يا مولاي ما سبب ما فعلته وما قد بان عليك؟
فقال: يا صافي والله لولا النار والعار لقتلت هذا الصبي اليوم فإن في قتله صلاحا للأمة.
فقلت: يا مولاي حاشاه أي شيء عمل أعيذك بالله، يا مولاي، العن إبليس.
فقال: ويحك، أنا أبصر بما أقوله، أنا رجل قد سُسْتُ الأمور وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأعلم أن الناس بعدي لا يختارون غير ولدي، وسيُجْلِسون ابني عليا -يعني المكتفي- وما أظن عمره يطول للعلة التي به، فقال صافي، يعني الخنازير (وهو تضخم الغدة الليمفاوية حتى تصير الرقبة متضخمة، فيكون المنظر أشبه بالخنزير ) التي كانت في حلقه فيتلف عن قرب ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعده أكبر من جعفر فيجلسونه وهو صبي، وله من الطبع في السخاء هذا الذي قد رأيت من أنه أطعم الصبيان مثل ما أكل وساوى بينه وبينهم في شيء عزيز في العالم، والشح على مثله في طباع الصبيان، فيحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن، فيقسم ما جمعته من الأموال كما قسم العنب ويبذر ارتفاع الدنيا، ويخربها، فتضيع الثغور، وتنتشر الأمور، وتخرج الخوارج وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عن بني العباس أصلا.
فقلت: يا مولاي بل يبقيك الله حتى ينشأ في حياة منك ويصير كهلا في أيامك ويتأدب بآدابك ويتخلق بخلقك ولا يكون هذا الذي ظننت.
فقال: احفظ عني ما أقوله فإنه كما قلت.
قال (صافي الخادم): ومكث يومه مهموما وضرب الدهر ضربته ومات المعتضد وولي المكتفي فلم يطل عمره، ومات وولي المقتدر فكانت الصورة كما قال المعتضد بعينها»
من كتابي #رحلة_الخلافة_العباسية الجزء الثاني #العباسيون_الضعفاء
كان وقَّافا عند حدود الله، فعندما دخل عليه الفقيه أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه رأى حوله من الخدم غلمانا من الروم حسان الوجوه فكأنه اشتبه على المعتضد أنه يقع في الحرام معهم، ففهم المعتضد هذا الظن فخلا به وقال: أيها القاضي والله ما حللت سراويلي على حرام قط.
ومن ذلك أن أحد علماء السلاطين جمع له كتابا فيه رُخَص العلماء، بحيث جمع له في كل أمر قول من أباحه، فاستشار فيه القاضي إسماعيل بن إسحاق الذي بُهِت لما فيه وقال: «يا أمير المؤمنين إنما جمع هذا زنديق. فقال: كيف ؟ فقلت: إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر بتحريق ذلك الكتاب».
وقد أورثته هذه التقوى فراسة قوية وأمورا تعد من الكرامات، من هذا أنه استيقظ مفزوعا فأمر بالقبض على أول مركب فارغة تعبر نهر دجلة وأن يأتوه بصاحبها، ففعلوا، فلما أدخلوه عليه «فحين رآه الملاح كاد يتلف، فصاح عليه صيحة واحدة عظيمة كادت روحه تخرج معها، فقال: أصدقني يا ملعون عن قصتك مع المرأة التي قتلتها وسلبتها اليوم وإلا ضربت عنقك. فتلعثم، وَقَالَ: نعم كنت اليوم سحرا في مشرعتي الفلانية، فنزلت امرأة لم أر مثلها، وعليها ثياب فاخرة، وحلى كثير وجوهر، فطمعت فيها، واحتلت عليها حتى سددت فاها وغرقتها، وأخذت جميع ما كان عليها، ولم أجترئ على حمل سلبها إلى بيتي لئلا يفشو الخبر علىَّ، فعملت على الهرب، وانحدرت الساعة لأمضي إلى واسط، فعوقني هؤلاء الخدم وحملوني.
فقال: وأين الحلي والسلب.
فقال: في صدر السفينة تحت البواري.
فقال المعتضد للخدم: جيئوني به، فمضوا واحضروه وَقَالَ: خذوا الملاح فغرقوه! ففعلوا ثم أمر أن ينادى ببغداد كلها على امرأة خرجت إلى المشرعة الفلانية سحرا وعليها ثياب وحلي يحضر من يعرفها، ويعطي صفة ما كان عليها ويأخذه، فقد تلفت المرأة، فحضر في اليوم الثاني أو الثالث أهل المرأة فأعطوه صفة ما كان عليها، فسلم ذلك إليهم. قَالَ: فقلنا: يا مولاي، أُوحي إليك؟! فقال: رأيت في منامي كأن شيخا أبيض الرأس واللحية والثياب، وهو ينادي: يا أَحْمَد! خذ أول ملاح ينحدر الساعة فاقبض عليه، وقرره خبر المرأة التي قتلها اليوم وسلبها، وأقم عليه الحد فكان ما شهدتم».
ومن فراسته ما توقعه من انهيار أمر الخلافة إذا ما وصلت إلى ابنه المقتدر، وقد صدقت فراسته بالفعل، فقد أورد الخطيب البغدادي عن صافي الحرمي خادم المعتضد قال:
«مشيت يوما بين يدي المعتضد وهو يريد دور الحُرَم، فلما بلغ إلى باب شغب أم المقتدر وقف يسمع ويطلع من خلل في الستر، فإذا هو بالمقتدر -وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها- وهو جالس وحواليه مقدار عشر وصائف من أقرانه في السن، وبين يديه طبق فضة فيه عنقود عنب في وقت فيه العنب عزيز جدا، والصبي يأكل عنبة واحدة ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة على الدور حتى إذا بلغ الدور إليه أكل واحدة مثل ما أكلوا حتى أفنى العنقود، والمعتضد يتميز غيظا.
قال (صافي الحرمي): فرجع ولم يدخل الدار ورأيته مهموما.
فقلت: يا مولاي ما سبب ما فعلته وما قد بان عليك؟
فقال: يا صافي والله لولا النار والعار لقتلت هذا الصبي اليوم فإن في قتله صلاحا للأمة.
فقلت: يا مولاي حاشاه أي شيء عمل أعيذك بالله، يا مولاي، العن إبليس.
فقال: ويحك، أنا أبصر بما أقوله، أنا رجل قد سُسْتُ الأمور وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأعلم أن الناس بعدي لا يختارون غير ولدي، وسيُجْلِسون ابني عليا -يعني المكتفي- وما أظن عمره يطول للعلة التي به، فقال صافي، يعني الخنازير (وهو تضخم الغدة الليمفاوية حتى تصير الرقبة متضخمة، فيكون المنظر أشبه بالخنزير ) التي كانت في حلقه فيتلف عن قرب ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعده أكبر من جعفر فيجلسونه وهو صبي، وله من الطبع في السخاء هذا الذي قد رأيت من أنه أطعم الصبيان مثل ما أكل وساوى بينه وبينهم في شيء عزيز في العالم، والشح على مثله في طباع الصبيان، فيحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن، فيقسم ما جمعته من الأموال كما قسم العنب ويبذر ارتفاع الدنيا، ويخربها، فتضيع الثغور، وتنتشر الأمور، وتخرج الخوارج وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عن بني العباس أصلا.
فقلت: يا مولاي بل يبقيك الله حتى ينشأ في حياة منك ويصير كهلا في أيامك ويتأدب بآدابك ويتخلق بخلقك ولا يكون هذا الذي ظننت.
فقال: احفظ عني ما أقوله فإنه كما قلت.
قال (صافي الخادم): ومكث يومه مهموما وضرب الدهر ضربته ومات المعتضد وولي المكتفي فلم يطل عمره، ومات وولي المقتدر فكانت الصورة كما قال المعتضد بعينها»
من كتابي #رحلة_الخلافة_العباسية الجزء الثاني #العباسيون_الضعفاء