لقاء مع الملك (2)هل فقدتَ الاتصال يومًا؟ كانت تخشى هذا اليوم جدًّا أن يأتي، ولكنه آتٍ لا محالة، فقد استيقظت "وِصال" ذلك اليوم باكرًا، مهمومة لترتب حقيبة زوجها الذي اضطر لسفر عمل فترة من الزمن، لم تتخيل وصال بُعد زوجها عنها أبدًا، حتى ولو لبضعة أيام؛ فهي تحبه جدًّا، ولا تطمئن إلا بقربه.
مرت الأيام، وعانت وِصال البعد، ولكنها استفاقت على ألمِ فقدٍ من نوع آخر؛ فقد فقدت الاتصال بخالقها منذ زمن، حتى إنها نسيت منذ متى، نعم هي تصلي وتحافظ على أورادها، ولكنها خاوية بلا روح ولا قلب.
ما أخسركِ يا وِصال حين تألمتِ على فقد مؤقت، ولم تنتبهي للفقد الأعظم!
وأنتَ هل جربت ألم فقد الاتصال يومًا؟
هل جربت أن تأنس بعزيز، وتتلذذ بقربه، وتطمئن به، ثم فجأة تفقد هذا الاتصال؟ فما أقسى مرارة الفقد!
أما جربت مرة لذة مناجاة القريب؟
أما جربت مرة سجودًا هو في هيئته سجود، ولكنه في الحقيقة ارتقاء وصعود؟
والآن أخبرني ما الذي حدث؟
لماذا فقدت الاتصال؟ أشبِعتَ من الأُنس، أم ظمِئتَ من الدنيا فعدت لترتوي منها، وتناسيت لذة الوصل، فانشغلت بالنعمة عن المُنْعِمِ؟
فماذا وجدتَ بعد الفقد، أطمأنت روحك؟ أسكن فؤادك؟
بالطبع لا.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "إن في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته".
وأي إقبال نرجو، وفي أي خلوة نطمع مثل التي في الصلاة؟
وهل تُقام الصلاة إلا لذكر الله؟ ولكن ليس أي ذكر، إنه ذكر يتصل به القلب، ذكر يروي بعض ظمأ الشوق، ويؤنس وحشة العمر؛ قال الله سبحانه وبحمده: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]، ﴿ لِذِكْرِي ﴾؛ أي: لتذكرني فيها، وعند السعدي قوله: ﴿ لِذِكْرِي ﴾ اللام للتعليل؛ أي: أقم الصلاة لأجل ذكرك إياي؛ لأن ذكره تعالى أجَلُّ المقاصد، وهو عبودية القلب، وبه سعادته، فالقلب المعطل عن ذكر الله، معطل عن كل خير، وقد خرب كل الخراب، فشرع الله للعباد أنواع العبادات، التي المقصود منها إقامة ذكره، وخصوصًا الصلاة؛ [تفسير الكريم الرحمن].
ولكن المشكلة أننا نتوهم أنه يسعنا ألَّا نخشع، وأنها منزلة عليا لا تكون إلا لخواص الخلق، ونسينا أن الكل فقير محتاج، الكل عبيد يقف بين يدي مولاه.
فالآن أما آن أنْ ترجو لله وقارًا، انتبه فأنت تقف بين يدي الملك، فهل هذه صلاة تليق به؟ قال ابن القيم: "إما أن تصلي صلاةً تليقُ بمعبودك، أو تتخذ معبودًا يليقُ بصلاتك".
فارتقي يا نفس لتَشْرُفي بلقاء مع الملك.
لقاء وكأن الروح فيه قد تحررت من أسْرِ الجسد، وأقلعت لتسجد تحت العرش، وكأنها ترى الملك تسجد بين يديه، وكيف لا وقد قال رسول الله صلى الله عليه عن الإحسانِ: ((أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك)).
ثم بعدها حدثني عن قسوة التسليم حين يحضر؛ لينذر القلب بقرب لحظة البعد.
فالصلاة للروح راحة وسكون، كالطفل الخائف المضطرب يسكن في أحضان أمه، كالطائر المهاجر حين يعود لموطنه فيسكن ويطمئن.
والآن يا قلبي: هلا سابقت ذلك البدن لتقفا معًا بين يدي الملك، أم تُراه يسبقك فتُحرم من الوصل.
وفي نهاية مقالتي:
أدعوك يا من تناثرت سعادتك، يا من اضطربت روحك، يا من لا تسكن إلا بالمهدِّئات - أن تسجد وتقترب، أن تدعو فيُستجاب لك، ألا يكفيك الرحمن لتطمئن بين يديه؟ فها هو القرب والسكينة، ها هو الفلاح، فهلا عدت للصراط المستقيم، صراط تمشي عليه في الدنيا وينتهي في الآخرة، في مقعد صدق، ليس عند أي أحد، بل عند مليك مقتدر .
☘ دينا بدر ☘
رابط الموضوع:
https://www.alukah.net/sharia/0/156808/%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%83-2-%D9%87%D9%84-%D9%81%D9%82%D8%AF%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D9%84-%D9%8A%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%9F/#ixzz7cE0iRjkf