كثير (7/ 3263) والدر المنثور (13/ 538)]
وهكذا من عَرف البدعَ والشرك والباطل وطُرُقَهُ؛ فأبغضَها لله، وحَذِرَها، وحَذَّر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يَدَعْها تَخْدِشُ وجهَ إيمانه ولا تُورِثُهُ شبهةً ولا شكًّا، بل يزدادُ بمعرفتها بصيرةً في الحقِّ ومحبةً له، وكراهةً لها ونفرةً عنها: أفضلُ ممَّن لا تخطُرُ بباله ولا تَمُرُّ بقلبه؛ فإنَّه كلما مرت بقلبه وتصوَّرتْ له ازداد محبةً للحقِّ ومعرفة بقدره وسُرورًا به، فيَقْوَى إيمانُهُ به؛ كما أن صاحب خواطر الشَّهواتِ والمعاصي كلَّما مرَّت به فرغب عنها إلى ضدِّها؛ ازداد محبَّةً لضدِّها ورغبةً فيه وطلبًا له وحرصًا عليه؛ فما ابتلى الله سبحانه عبدَهُ المؤمنَ بمحبة الشهوات والمعاصي وميلِ نفسِه إليها؛ إلا ليَسُوقَه بها إلى محبَّهِ ما هو أفضلُ منها وخيرٌ له وأنفعُ وأدومُ، وليُجاهِدَ نفسَه على تركها له سبحانه، فتُورِثُه تلك المجاهدةُ الوصولَ إلى المحبوب الأعلى؛ فكلما نازعتْه نفسُه إلى تلك الشهوات واشتدَّت إرادتُه لها وشوقُه إليها؛ صَرَفَ ذلك الشوقَ والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبُه له أشدَّ، وحرصُه عليه أتمَّ؛ بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك؛ فإنها وإن كانت طالبةً للأعلى، لكن بين الطلبين فرقٌ عظيم! ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظمُ ممَّن مشى إليه راكبًا على النجائب؟ فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره؛ فهو سبحانه يبتلي عبده بالشَّهوات؛ إمَّا حجابًا له عنه، أو حاجبًا له يُوصِلُه إلى رضاهُ وقُربِه وكرامتِهِ.
4 - الفرقة الرابعة: فرقةٌ عرفتْ سبيلَ الشرِّ والبدع والكفر مفصَّلةً، وسبيلَ المؤمنين مجملةً.
وهذا حالُ كثيرٍ ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع، فعرفها على التفصيل، ولم يَعرِفْ ما جاء به الرسول كذلك، بل عرفهُ معرفةً مجملةً، وإن تفصَّلتْ له في بعض الأشياء، ومن تأمَّل كُتبهم رأى ذلك عيانًا.
وكذلك من كان عارفًا بطرق الشر والظُّلم والفساد على التفصيل سالكًا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار؛ يكونُ علمه بها مجملًا، غير عارفٍ بها على التفصيل معرفةَ من أفنى عُمُرَهُ في تصرُّفها وسلوكها.
والمقصودُ أنَّ الله سبحانه يُحِبُّ أن تُعرَفَ سبيلُ أعدائه لتُجتنَب وتُبْغَض كما يُحِبُّ أن تُعرَف سبيلُ أوليائه لتُحَبَّ وتُسلَكَ.
وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله؛ من معرفة عمومِ ربوبيَّته سبحانه وحكمته، وكمال أسمائه وصفاته، وتعلُّقها بمتعلَّقاتها، واقتضائها لآثارها وموجباتها. وذلك من أعظم الدِّلالة على ربوبيَّتِهِ ومُلكِهِ وإلهيَّتِهِ، وحُبِّهِ وبُغْضِهِ، وثوابِهِ وعقابِهِ. والله أعلم. انتهى
«الفوائد لابن القيم - ط عطاءات العلم» (1/ 157 - 162)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة» (2/ 836 - 838 ط عطاءات العلم):
فصل
ومنها: أنَّ مثل هذا يصيرُ كالطَّبيب ينتفعُ به المرضى في علاجهم ودوائهم، والطَّبيبُ الذي كان المرضُ يباشرُه (1) وعَرَف دواءه وعلاجَه أحذقُ وأخبرُ من الطَّبيب الذي إنما عَرَفه وصفًا، هذا في أمراض الأبدان، وكذلك في أمراض القلوب وأدوائها.
وهذا معنى قول بعض الصُّوفية: «أعرفُ النَّاس بالآفات أكثرُهم آفات».
وقال عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه: «إنما تُنقض عُرى الإسلام عُروةً عُروةً إذا نشأ في الإسلام من لا يعرفُ الجاهليَّة».
ولهذا كان الصَّحابةُ أعرفَ الأمَّة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه، وأشدَّ النَّاس رغبةً فيه، ومحبةً له، وجهادًا لأعدائه، وتكلُّمًا بأعلامه، وتحذيرًا من خلافه؛ لكمال علمهم بضدِّه، فجاءهم الإسلامُ كلُّ خصلةٍ منه مضادَّةٌ لكلِّ خصلةٍ مما كانوا عليه، فازدادوا له معرفةً وحبًّا، وفيه جهادًا؛ بمعرفتهم بضدِّه.
وذلك بمنزلة من كان في حَصَرٍ شديدٍ وضيقٍ ومرضٍ وفقرٍ وخوفٍ ووَحْشَة، فقيَّض الله له من نقله منه إلى فضاءٍ وسَعةٍ وأمنٍ وعافيةٍ وغِنًى وبهجةٍ ومسرَّة، فإنه يزدادُ سرورُه وغِبطتُه ومحبتُه بما نُقِل إليه بحسب معرفته بما كان فيه.
وليس حالُ هذا كمن وُلِد في الأمن والعافية والغِنى والسُّرور، فإنه لم يشعُر بغيره، وربما قُيِّضت (1) له أسبابٌ تخرجُه عن ذلك إلى ضدِّه وهو لا يشعُر، وربما ظنَّ أنَّ كثيرًا من أسباب الهلاك والعَطب تفضي به إلى السَّلامة والأمن والعافية، فيكون هلاكُه على يَدَي نفسه وهو لا يشعُر. وما أكثر هذا الضَّربَ من النَّاس!
فإذا عَرَف الضدَّين، وعَلِم مباينةَ الطَّرفين، وعَرَف أسبابَ الهلاك على التفصيل، كان أحرى أن تدُوم له النِّعمة، ما لم يُؤْثِر أسبابَ زوالها على عِلم، وفي مثل هذا قال القائل:
وهكذا من عَرف البدعَ والشرك والباطل وطُرُقَهُ؛ فأبغضَها لله، وحَذِرَها، وحَذَّر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يَدَعْها تَخْدِشُ وجهَ إيمانه ولا تُورِثُهُ شبهةً ولا شكًّا، بل يزدادُ بمعرفتها بصيرةً في الحقِّ ومحبةً له، وكراهةً لها ونفرةً عنها: أفضلُ ممَّن لا تخطُرُ بباله ولا تَمُرُّ بقلبه؛ فإنَّه كلما مرت بقلبه وتصوَّرتْ له ازداد محبةً للحقِّ ومعرفة بقدره وسُرورًا به، فيَقْوَى إيمانُهُ به؛ كما أن صاحب خواطر الشَّهواتِ والمعاصي كلَّما مرَّت به فرغب عنها إلى ضدِّها؛ ازداد محبَّةً لضدِّها ورغبةً فيه وطلبًا له وحرصًا عليه؛ فما ابتلى الله سبحانه عبدَهُ المؤمنَ بمحبة الشهوات والمعاصي وميلِ نفسِه إليها؛ إلا ليَسُوقَه بها إلى محبَّهِ ما هو أفضلُ منها وخيرٌ له وأنفعُ وأدومُ، وليُجاهِدَ نفسَه على تركها له سبحانه، فتُورِثُه تلك المجاهدةُ الوصولَ إلى المحبوب الأعلى؛ فكلما نازعتْه نفسُه إلى تلك الشهوات واشتدَّت إرادتُه لها وشوقُه إليها؛ صَرَفَ ذلك الشوقَ والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبُه له أشدَّ، وحرصُه عليه أتمَّ؛ بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك؛ فإنها وإن كانت طالبةً للأعلى، لكن بين الطلبين فرقٌ عظيم! ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظمُ ممَّن مشى إليه راكبًا على النجائب؟ فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره؛ فهو سبحانه يبتلي عبده بالشَّهوات؛ إمَّا حجابًا له عنه، أو حاجبًا له يُوصِلُه إلى رضاهُ وقُربِه وكرامتِهِ.
4 - الفرقة الرابعة: فرقةٌ عرفتْ سبيلَ الشرِّ والبدع والكفر مفصَّلةً، وسبيلَ المؤمنين مجملةً.
وهذا حالُ كثيرٍ ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع، فعرفها على التفصيل، ولم يَعرِفْ ما جاء به الرسول كذلك، بل عرفهُ معرفةً مجملةً، وإن تفصَّلتْ له في بعض الأشياء، ومن تأمَّل كُتبهم رأى ذلك عيانًا.
وكذلك من كان عارفًا بطرق الشر والظُّلم والفساد على التفصيل سالكًا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار؛ يكونُ علمه بها مجملًا، غير عارفٍ بها على التفصيل معرفةَ من أفنى عُمُرَهُ في تصرُّفها وسلوكها.
والمقصودُ أنَّ الله سبحانه يُحِبُّ أن تُعرَفَ سبيلُ أعدائه لتُجتنَب وتُبْغَض كما يُحِبُّ أن تُعرَف سبيلُ أوليائه لتُحَبَّ وتُسلَكَ.
وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله؛ من معرفة عمومِ ربوبيَّته سبحانه وحكمته، وكمال أسمائه وصفاته، وتعلُّقها بمتعلَّقاتها، واقتضائها لآثارها وموجباتها. وذلك من أعظم الدِّلالة على ربوبيَّتِهِ ومُلكِهِ وإلهيَّتِهِ، وحُبِّهِ وبُغْضِهِ، وثوابِهِ وعقابِهِ. والله أعلم. انتهى
«الفوائد لابن القيم - ط عطاءات العلم» (1/ 157 - 162)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة» (2/ 836 - 838 ط عطاءات العلم):
فصل
ومنها: أنَّ مثل هذا يصيرُ كالطَّبيب ينتفعُ به المرضى في علاجهم ودوائهم، والطَّبيبُ الذي كان المرضُ يباشرُه (1) وعَرَف دواءه وعلاجَه أحذقُ وأخبرُ من الطَّبيب الذي إنما عَرَفه وصفًا، هذا في أمراض الأبدان، وكذلك في أمراض القلوب وأدوائها.
وهذا معنى قول بعض الصُّوفية: «أعرفُ النَّاس بالآفات أكثرُهم آفات».
وقال عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه: «إنما تُنقض عُرى الإسلام عُروةً عُروةً إذا نشأ في الإسلام من لا يعرفُ الجاهليَّة».
ولهذا كان الصَّحابةُ أعرفَ الأمَّة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه، وأشدَّ النَّاس رغبةً فيه، ومحبةً له، وجهادًا لأعدائه، وتكلُّمًا بأعلامه، وتحذيرًا من خلافه؛ لكمال علمهم بضدِّه، فجاءهم الإسلامُ كلُّ خصلةٍ منه مضادَّةٌ لكلِّ خصلةٍ مما كانوا عليه، فازدادوا له معرفةً وحبًّا، وفيه جهادًا؛ بمعرفتهم بضدِّه.
وذلك بمنزلة من كان في حَصَرٍ شديدٍ وضيقٍ ومرضٍ وفقرٍ وخوفٍ ووَحْشَة، فقيَّض الله له من نقله منه إلى فضاءٍ وسَعةٍ وأمنٍ وعافيةٍ وغِنًى وبهجةٍ ومسرَّة، فإنه يزدادُ سرورُه وغِبطتُه ومحبتُه بما نُقِل إليه بحسب معرفته بما كان فيه.
وليس حالُ هذا كمن وُلِد في الأمن والعافية والغِنى والسُّرور، فإنه لم يشعُر بغيره، وربما قُيِّضت (1) له أسبابٌ تخرجُه عن ذلك إلى ضدِّه وهو لا يشعُر، وربما ظنَّ أنَّ كثيرًا من أسباب الهلاك والعَطب تفضي به إلى السَّلامة والأمن والعافية، فيكون هلاكُه على يَدَي نفسه وهو لا يشعُر. وما أكثر هذا الضَّربَ من النَّاس!
فإذا عَرَف الضدَّين، وعَلِم مباينةَ الطَّرفين، وعَرَف أسبابَ الهلاك على التفصيل، كان أحرى أن تدُوم له النِّعمة، ما لم يُؤْثِر أسبابَ زوالها على عِلم، وفي مثل هذا قال القائل: