بداية السبيل


Гео и язык канала: не указан, не указан
Категория: не указана


القناة الرسميّة لفضيلة الشيخ حسان حسين آدم
(منهج الهداة بين الغلاة والجفاة)

Связанные каналы

Гео и язык канала
не указан, не указан
Категория
не указана
Статистика
Фильтр публикаций


والمقصود هنا: أن اختلاف الناس في الحكم على الأعيان والطوائف بعد الاتفاق على الأصول الشرعية لا يقتضي التضليل والتبديع؛ لأن الأنظار قد تختلف في تحقيق المناط في المحلّ.
وبيان أن إلزام المخالف بخطأ الاجتهاد تكفيرا وتبديعا يدخل فيه الاختلاف في كلّ (مجتهد فيه)؛ لأن المانع من تأثيم المخطئ وتكفيره في المسائل ملخّص في:

1- أن يكون المخطئ من أهل الاجتهاد والعلم؛ لأنّ الجاهل ليس أهلا للاجتهاد فلا يدخل في عموم الألفاظ والمعاني في العفو عن المخطئ.

2- أن تكون القضية (مجتهدًا فيها)؛ لاشتباه الدليل، سواء وجد الخلاف فيها أو لم يوجد.
و(المجتهد فيه) عند أهل العلم: كلُّ حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، ولهذا قالوا: لا اجتهاد في موارد النص – أي: القطعي- لا مطلق النص.

وعلى هذا: من كفّر أو بدّع المخالف في الخلافيات أو في الاجتهاديات بالاصطلاح المفرّق بينها وبين الخلافيات ففيه بدعة خارجية وخصلة تكفيرية، سواء كان ذاك من الصحابة رضي الله عنهم، أو من التابعين لهم بإحسان، كأهل الحديث في تضليلهم وتبديعهم لأهل الأهواء والبدع عند هذا الرجيل (وليد) وأمثاله.

قطع الله دابرهم وأراح الله العباد والبلاد من بهتانهم.


ورغم ذلك قال جمهور الشافعية بحمل الكفر على الأصغر.
والتحقيق حمل الكفر على الأكبر؛ لأنه الذي تشهد به الآثار والوقائع المروية عن أئمة الحديث وفقهاء الأثر، لكن يجب التنبه لتفريق أهل العلم بين كفر التصريح الذي لا يفرّق فيه بين القول والقائل، بل يكفّر صاحبه مباشرة، وبين كفر التأويل الذي يفرّق بين كفر النوع وكفر العين كما حكى شيخ الإسلام عن السلف أنهم كانوا لا يكفّرون أعيان الجهمية ممن لم تقم عليه الحجة بخلاف من قامت عليه الحجة كالجهم نفسه، وبشر بن غياث المريسي، وأبي بكر الأصم، وأحمد بن أبي دؤاد القاضي ونحوهم.
ومن ذلك أن الشافعي كفّر حفصا الفرد بعد المناظرة ووضوح الحجة وقيامها عليه.
ألا ترى تقرير ابن أبي عاصم في السنة: «ومن ‌قال: ‌مخلوق، ممن قامت عليه الحجة فكافر بالله العظيم، ومن قال من قبل أن تقوم عليه الحجة فلا شيء عليه».
(فلا شيء عليه) لأن القول ليس في ذاته كفرا، فالحجة هنا: بيان اللازم الكفري وتحقيقه للقائل بالملزوم حتى يكون في حكم الالتزام.

* وأما الإمام أحمد بن حنبل (241هـ) رحمه الله
فقد كان يهاب في أول الأمر الكلام في المسألة، ولما خاض الناس فيها وانتشر كلامهم هاب أن يقال: كافر كما رواه الخلال بأسانيده وابن بطة في الكبرى.
ومما روي أنه قال: «كنا نأمر بالسكوت، ونترك الخوض في الكلام، وفي القرآن، فلما دعينا إلى أمر ما كان بدا لنا من أن ندفع ذاك ونبين من أمره ما ينبغي»، «قد كنّا نهاب الكلام في هذا حتى أحدث هؤلاء ما أحدثوا، وقالوا ما قالوا، دعوا الناس إلى ما دعوهم إليه فبان لنا أمرهم، وهو الكفر بالله العظيم»، «إن كلّ يوم ازداد في القوم بصيرة»، وسأله يعقوب بن بختان عمن قال: القرآن مخلوق؟ فأجاب أحمد: «كنت أهاب أن أقول كافر، فرأيت قول الله: ﴿فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم﴾».
وفي جوابه عن سؤال ابن الدورقي: «قد كنا نهاب الكلام في هذا، ثم بان لنا الحكم، يقول الله في كتابه ﴿فمن حاجّك﴾».
وقال الإمام الدارمي: «وكذلك قال ابن حنبل: كنا ‌نرى ‌السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء، فلما أظهروه لم نجد بدا من مخالفتهم والرد عليهم».
ثم صار بعد ذلك إلى التكفير والتشدد فيها، بل صار يكفّر من لم يكفّر القائل بالمخلوقية كما تقدّم.

14- وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: «يجب تكفير عبيد الله بن الحسن العنبري، وعمرو بن بحر الجاحظ في قولهما أن كل مجتهد مصيب».

15- اختلف العلماء في تكفير ابن عربي الطائي وتكفير من لم يكفّره.

16- واجتهد بعض الفقهاء والقضاة في العمل مع التتار فاختلف العلماء في تكفيرهم.

17- كذلك اجتهد بعضهم في العمل مع بني عبيد والخطبة والدعاء لهم فاختلف العلماء في تكفيرهم وتكفير من لم يكفّرهم.

18- اختلفوا في التفصيل بين أتباع بني عبيد الباطنيين وأطلقوا على المفصّل في حكم الطائفة بالبدعة والضلال.
قال القاضي عياض رحمه الله: «كان رأي الفقهاء أن بني عبيد زنادقة، وأن الداخل في دعوتهم، وإن لم يقل بقولهم، كافر لتولّيه الكفرة».
وذكر أن الفقهاء حكموا على المفصّل القائل بأن «هذه الفرقة على ضربين: أحدهما كافر، مباح الدم، والضرب. والآخر الذين يقولون بتفضيل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة، لا يلزمهم الكفر، ولا تبطل نكاحاتهم. وشاعت فتواه فأنكرها فقهاء إفريقية بالقيروان، وغيرها...» بالبدعة والضلال قال القاضي: «فأطلق الفقهاء الفُتيا عليه بمقالته هذه بالتضليل والتبديع».
ثم ذكر طلب استتابته في الملأ على المنبر: «وحكّم في المسألة اللبيدي، فحكم بأن يقر بالتوبة على المنبر، بمشهد جميع الناس، وأن يقول: كنت ضالا فيما رأيته ونطقت به. ثم رجعت عن ذلك الى مذهب الجماعة. فكانوا على ذلك، وكأنه استعظم الأمر على المنبر، وقال ها أنا أقول هذا بينكم. فساعدوه وقنعوا منه بقول ذلك بحضرة السلطان، والجماعة. وأن يقوله في مجلسه، ويشيعه عن نفسه. فافترقوا على ذلك».
والكلام ليس في المصيب والمخطئ فيها وإنما في عدم نسبة المكفّر أو المبدّع الطالب للموافقة على رأيه إلى بدعة الخارجية والمروق من الدين.

19- وكفّر جمع من أهل العلم تيمورلنك مع أنه جاء في كتب التراجم والتاريخ: «‌أن ‌شعائر ‌الإسلام في بلاد ظاهرة».

20- وقضى كثير من أهل العلم بكفر الدول المحكّمة للقوانين الوضعية وإن كانت منتسبة للإسلام، وحكم العلماء بكفر حبيب بورقيبة، وجمال عبد الناصر، والنميري السوداني، وحافظ الأسد، وصدام حسين، ومعمر القذافي، وحكومة عدن اليمنية، وحكم الشيخ ابن باز بكفر روجا جارودي الفرنسي، إلى أمثلة لا يحصرها العدّ والإحصاء.
فلم أر من نسب المكفّر أو المبدّع إلى بدعة الخارجية والمروق ممن يعتدّ بقوله بسبب الخلاف في الحكم على الأعيان وإلزام الآخر بالرأي الاجتهادي كما هي قاعدة الزنادقة في عصرنا يقولون: فلان تكفيري؛ لأنه كفّر الشيخ الفلانيّ؛ وهذا تكفيري لأنه كفّر الطائفة الفلانية رغم ترديدهم أن التكفير حكم شرعي يعود إلى مناطه لا إلى الأشخاص الاعتبارية والطوائف.


1- كان الأمام أبو حنيفة (150هـ) يقول بمخلوقية القرآن في أوّل الأمر كما في ترجمته وكتب أهل الأثر.
قال أبو بكر الخطيب: «أما القول بخلق القرآن فقد قيل: إن أبا حنيفة لم يكن يذهب إليه، والمشهور عنه أنه كان يقوله، واستتيب منه».
ثم رجع عنها فصار يكفّر القائل بها.
قال أبو يوسف القاضي (182هـ) رحمه الله: «كلّمت أبا حنيفة رحمه الله ‌سنة ‌جرداء في أن القرآن مخلوق أم لا؟ فاتفق رأيُه ورأيي على أنّ من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر».
وقال أبو يوسف القاضي أيضا: «ناظرتُ أبا حنيفة ستة أشهر فاتفق رأينا على أن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر».
وقال محمد بن سابق: «سألت أبا يوسف فقلت: أكان أبو حنيفة يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: معاذ الله، ولا أنا أقوله.
فقلت: أكان يرى رأي جهم؟ فقال: معاذ الله، ولا أنا أقوله».
ومن أحسن ما أسند الخطيب قول أحمد بن حنبل: «لم يصح عندنا أنّ أبا حنيفة كان يقول: القرآن مخلوق».
والظاهر أنه كان يقول بالمخلوقية ثم رجع عنها بعد البحث والمناظرة فيحتمل أن يكون كلام أحمد في آخر حال أبي حنيفة.
قال أبو حاتم البستي في أبي يوسف القاضي: «لم يسلك سبيل صاحبه الا في الفروع، وكان يباينه ‌في ‌الايمان ‌والقرآن».
وفي موضع آخر: «لم يكن يسلك مسلك صاحبيه إلا في الفروع، وكان يباينهما ‌في ‌الإيمان ‌والقرآن».
وقال فخر الإسلام البزدوي الحنفي (482هـ): «وقد صحّ عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت أبا حنيفة في مسألة خلق القرآن ستة أشهر، فاتفق رأيي ورأيه على أن من قال بخلق القرآن: فهو كافر.
وقد صحّ هذا القول عن محمد رحمه الله».

* وكان محمد بن الحسن الشيباني (189هـ) جهميا كما ذكره يزيد بن هارون الواسطي وأحمد بن حنبل وأبو زرعة.
قال الإمام يزيد بن هارون بن زاذان السلمي الواسطي (206هـ) رحمه الله: «ومحمد الشيباني جهمي».
وقال أحمد بن حنبل (241هـ): «كان محمد بن الحسن في الأول يذهب مذهب جهم».
وقال أبو زرعة الرازي (264هـ): «كان أبو حنيفة ‌جهميا، وكان محمد بن الحسن ‌جهميا، وكان أبو يوسف سليما من التجهم».
وقال زكريا الساجي رحمه الله: «محمد بن الحسن كان يقول بقول جهم، وكان مرجئا».
ثم رجع عن ذلك فصار يكفر الجهمية ومن قال بقولهم كما تقدّم في بيان الإمام أحمد بن حنبل، وكلام البزدوي الحنفي في أصوله: «قد صحّ عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت أبا حنيفة في مسألة خلق القرآن ستة أشهر، فاتفق رأيي ورأيه على أن من قال بخلق القرآن: فهو كافر.
وقد صحّ هذا القول عن محمد رحمه الله..».
وقال أيوب بن الحسن الفقيه: كان محمد بن الحسن لا يجيز شهادة الجهمية.

* واختلف قول الإمام مالك إمام دار الهجرة (179هـ) رحمه الله في التكفير، والاقتصار على التعزير.
قال ‌عبد ‌الله ‌بن ‌نافع: كان مالك يقول: «القرآن كلام الله»، ويستفظع قول من يقول: القرآن مخلوق.
وقال: كان مالك بن أنس يقول: «من قال: القرآن مخلوق، يوجع ضربا، ويحبس حتى يتوب».
وقال سريج بن النعمان: سألت عبد الله بن نافع، وقلت له: إن قبلنا من يقول: القرآن مخلوق فاستعظم ذلك ولم يزل متوجعا حزينا يسترجع، قال عبد الله يعني ابن نافع قال مالك: «من قال القرآن مخلوق يؤدّب ويحبس ‌حتى ‌تعلم ‌منه ‌التوبة».
وفي رواية يحيى بن خلف المقرئ: كنت عند مالك بن أنس فقال له رجل: يا أبا عبد الله ما تقول في رجل قال: القرآن مخلوق؟ فقال مالك بن أنس: اقتلوه، كافر. وفي رواية: عندي كافر فاقتلوه؛ فقال: يا أبا عبد الله إني لم أقله إنما قلت لك: قال إنسان. قال مالك بن أنس: إنما سمعته منك».
وفي رواية ميمون بن يحيى البكري قال مالك بن أنس: «من قال القرآن مخلوق يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه».

* وأما الإمام الشافعي (204هـ) رحمه الله فأكثر قوله قبول شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية كما ذكر في الأم من كتاب أدب القاضي.
وصحّ عنه: أنه كفّر حفصا الفرد بخلق القرآن.
وروي عنه أنه قال: «من قال: ‌القرآن ‌مخلوق ‌فهو ‌كافر».
وعلى التكفير بالمخلوقية جرى أصحابه البويطي والمزني والربيع بن سليمان وغيرهم.
قال البيهقي بعد كلام أصحاب الشافعي: «هذا مذهب أئمتنا -رضى الله عنهم- في هؤلاء المبتدعة، الذين حرموا التوفيق وتركوا ظاهر الكتاب والسنة بآرائهم المزخرفة، وتأويلاتهم المستنكرة».


- وقال أبو العباس أحمد الكَنْكَشِيّ (449هـ) في أصناف الجهمية في القرآن: «ومنهم من لا يكفّر هؤلاء، بل يسكت عنهم. فهؤلاء الأصناف كلّها هم الجهمية، وهم كفار زنادقة، حلال القتل. ومن لا يكفّر هؤلاء الأصنافَ كلّها فهو كافر زنديق حلال القتل».
- وقال ابن بطة عبيد الله بن محمد (387هـ): «ومن قال مخلوق، أو قال: كلام الله، ووقف، أو شكّ، أو قال بلسانه وأضمره في نفسه فهو بالله كافر، حلال الدم بريء من الله، والله منه بريء، ومن شك في كفره ووقف عن تكفيره فهو كافر».

وعلى أي حال تكفير القائل بالمخلوقية انتشر في الناس حتى في عوامّ المسلمين.
قال عون بن محمد الكندي: ‌«لعهدي ‌بالكرخ، ولو أن رجلا قال: ابن أبي دؤاد مسلم، لقتل في مكانه».
هذا قول العامّة في ابن أبي دؤاد القاضي، وكذلك قالوا في المأمون العباسي الذي جاء بهذا.
قال أهل طرسوس: الكافر، لا رحمه الله. فقال أحمد بن حنبل: «نعم، فلا رحمه الله، هذا الذي أسس هذا، وجاء بهذا».
وقيل ليحيى بن معين: ما عليّ (ابن عبد الله المديني) عند الناس إلا مرتد. فقال: ما هو بمرتد، هو على إسلامه، رجل خاف فقال ما عليه.

والمقصود: أن تكفير القائل بخلق القرآن من التكفير بلازم المذهب؛ إذ لا إجماع في تكفيره بين علماء الأمة، ولا نصّ ظاهر من كتاب أو سنة في تكفيره فصار هذا التكفير الاجتهادي يلزم القائل بالمخلوقية ومن لم يكفّره أو شك في كفره عند جمهور السلف من أهل الحديث.
ومعلوم أن الخصلة إن جاء في كونها كفرا نص أو قياس على منصوص، فهذا يسمى كفر التصريح كترك الصلاة وسب الأنبياء.
وإن لم يأت نص في كونها كفرا بنفسها لكن القول بها استلزم كفرا بذاته فهو كفر التأويل كالقول بخلق القرآن، كما هو ظاهر من حكم أهل الحديث على مخالفيهم في القضية.
ولا ريب أن المخالف ينازع في حكم القضية كما ينازع في التكفير وينكر ما ألزم به من قبل أهل الحديث.
واعلم أن أهل العلم أجمعوا على أنّ القصد إلى القول شرط سبب أو جزؤه في الأحكام التكليفية، وأن من لم يقصد النطق بالقول الكفري ليس كافراً لانتفاء القصد الذي هو شرط سبب أو جزؤه.
وهذه القاعدة تقدح في التكفير بالمآل؛ لأنه قد نجزم أن القائل قاصد لمخلوقية القرآن، ولكن نقطع أنه لا يقصد مخلوقية الخالق سبحانه.
وقد تقرر في الأصول: أن الشك في السبب يوجب الشك في المسبب، وأن الأصل عدم السبب حتى نتحقّق من حصوله.
هذا أصل الإشكال في التكفير بلازم المذهب وتكفير من لم يكفّره أو شك في كفره.
ومما يشدّ من عضد هذا: أن الكفر في الدنيا إنما يتعلق بالقول والفعل الظاهر؛ ولهذا قال عليه السلام في الخروج على الحاكم المرتد: «إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان»؛
وعليه إذا كفّرنا أحداً بلازم قوله فإننا لم نر منه كفراً ظاهرا دلّ النص على كونه كفرا بنفسه، وإنما رأينا قولا يلزم منه الكفر على اجتهادنا لكن صاحبنا يعتقد الملزوم أنه الحق مع العلم السابق بإسلامه فكيف نرفع إسلاما ظاهرا بكفر غير ظاهر؟
والقاعدة: أن الذمة إذا عمرت بيقين لم يرفع عنها إلا بيقين، واليقين هنا: ما يعتمد على مثله الشرع، قطعيا كان أو ظنيا، وإسلام صاحب الملزوم يقين شرعا فكيف نرفعه بلازم لا يقصد إليه ولا يقول به قطعا.
وجملة القول: أجرينا عملية قياسية إلزامية كأن نقول مثلا: القول بخلق القرآن مساو للقول بمخلوقية الخالق، واللازم المساوي (الله مخلوق) ملزوم أيضا (القرآن مخلوق) فينتج: القول بخلق القرآن كفر، من باب قياس الملزوم على اللازم.
وإذا طُولب أحدنا بالدليل من الكتاب والسنة أو الإجماع السابق على أن خلق القرآن كفر أو شرك في ذاته لا يجد، وإن كان ذاك القول ضلالا مبينا أو خطأ جسيما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ): «الكفر حكم شرعي متلقي عن صاحب الشريعة، والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرا في الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صواباً في العقل تجب في الشرع معرفته».


* يكفيك احتياطا واعتبارا: أنّ المسألة اضطربت فيها مواقف أئمة الأمصار وفقهاء الأعصار.


9- وكفّر جماعة من التابعين الحجاج بن يوسف مثل: سعيد بن المسيب، وطاووس، والشعبي، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والأجلح الكندي، وألزموا المخالف بذلك وتكلّموا فيه.
قال الشعبي لعمرو بن قيس: «يا عمرو شمّرت ثيابك وحللت إزارك وقلت: ‌الحجاج ‌مؤمن ضال، كيف يجتمع في مؤمن إيمان وضلال؟
‌الحجاج ‌مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله العظيم».
وحكم إبراهيم النخعي على مخالفيه بالضلالة والعمى: «كفى به ‌عمًى ‌أن ‌يعمى الرجلُ عن أمر الحجاج».

10- وكفّر الإمام ابن أبي ذئب الإمام مالكا في حديث الخيار، وأهل العلم لم يطعنوا في ابن أبي ذئب ولا قدحوا في دين مالك بن أنس.

11- وكفّر أهل مكة والمدينة وبعض علمائهم الإمام وكيعا في حديث استنكروه.
خلاصة القصة: أن وكيعا روى في عام (184هـ) بمكة حديثا متعلقا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم يتأوّله وكيع على وجه يحتمل؛ فأخذه أمير مكة وحبسه وعزم على قتله، ونصبت له خشبة خارج الحرم، ثم استفتي في أمره ابن عيينة وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد فقال عبد المجيد: يجب أن يقتل هذا، فإنه لم يرو هذا إلا وفي قلبه غشّ للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عيينة: هذا حديث معروف، لا يجب عليه القتل، رجل سمع حديثا فرواه. قال سفيان: ولم أكن سمعته، إلا أني أردت تخليص وكيع. الكامل لابن عدي ترجمة ابن أبي رواد (1505)، وتاريخ دمشق (63/101)، تاريخ الإسلام (341)، سير أعلام النبلاء (9/160).
والحديث منكر باطل.

12- اختلف الحميدي وصاحبه في حديث فجعلا الإمام البخاري حكما بينهما.
قال: «‌فقضيت ‌للحميدي على من يخالفه، ولو أن مخالفه أصرّ على خلافه، ثم مات على دعواه، لمات كافرا». سير أعلام النبلاء (12/401).

13- واختلف أهل الأثر ومخالفوهم في مخلوقية القرآن فكفّر أصحاب الحديث القائل بذلك، ومن لم يكفّره كما نصّ على تكفير من لم يكفّر القائل بالمخلوقية:
- الإمام أبو بكر بن عياش الأسدي (193هـ) قال في اليهودي والنصراني: «فمن شكّ في هؤلاء أنهم كفار، فهو كافر، والذي يقول: القرآن مخلوق مثلهما».
- والإمام سفيان بن عيينة أبو محمد (198هـ): «القرآن كلام الله عز وجل، من قال: مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر».
- والإمام يزيد بن هارون الواسطي (206هـ): «من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن لم يكفّره فهو كافر، ‌ومن ‌شكّ ‌في ‌كفره ‌فهو ‌كافر».
- وأبو خيثمة زهير بن حرب النسائي (234هـ): «ومن شك في كفر الجهمية فهو كافر»، وقال: «من زعم أن القرآن كلام الله مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر».
- والإمام أحمد بن حنبل (241هـ): «من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ‌ومن ‌شك ‌في ‌كفره ‌فهو ‌كافر». وقال أيضا: «فهو كلام الله غير مخلوق، ‌فمن ‌قال: ‌مخلوق، ‌فهو ‌كافر ‌بالله ‌العظيم، ومن لم يكفره فهو كافر».
- وقال سلمة بن شبيب النيسابوري المكيّ (247هـ) عمن لم يكفّر الواقفة: «‌من ‌لم ‌يشهد ‌بكفر ‌الكافر فهو كافر».
- والإمام هارون بن موسى الفرْوي (252هـ): «من قال: (مخلوق) فهو كافر، ومن شكّ في الواقفة فهو كافر». وقال: «من وقف في القرآن بالشك فهو كافر، ‌ومن ‌وقف ‌بغير ‌شك ‌فهو ‌مبتدع».
- الإمام أبو عبد الله البخاري (256هـ): «ما رأيت قوما أضل في كفرهم من الجهمية، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم».
- وقال أبو حاتم محمد بن إدريس (277هـ)، وأبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم (264هـ) في عقيدتهما:
«ومن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم، كفرا ينقل عن الملة، ومن شكّ في كفره ممن يفهم فهو كافر...».
- وقال أبو حاتم الرازي (277هـ): «ومن زعم أنه مخلوق مجعول فهو كافر بالله كفرا ينقل عن الملة، ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر، ومن كان جاهلا علّم، فإن أذعن بالحق بتكفيره وإلا ألزم الكفر، والواقفية، واللفظية جهمية».
- امتحن الإمام عمر بن شبة أبو زيد النميري (262هـ) بهذه المسألة، قالوا له: «تقول: من وقف فهو كافر؟ فقال: لا أكفّر أحدا، فقالوا له: أنت كافر، ومزّقوا كتبه فلزم بيته، وحلف أن لا يحدث شهرا...».
- ونقل حرب بن إسماعيل الكرماني (280هـ) عن أهل الأثر أنهم قالوا في القائل بالمخلوقية والواقفي واللفظي: «‌ومن ‌لم ‌يكفّر ‌هؤلاء ‌القومَ والجهميةَ كلَّهم فهو مثلهم».
- وقال أبو الحسن الأشعري (326هـ) عن طائفة من أهل الحديث: «وأكفر هؤلاء الواقفة التي لم تقل: أن القرآن غير مخلوق، ومن شكّ في أنه غير مخلوق، ‌والشاك ‌في ‌الشاك.
وأكفروا من قال: لفظي بالقرآن مخلوق».
- وأبو القاسم الطبراني (360هـ): «من قال: إنه مخلوق، فهو شر من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان، وليس من أهل التوحيد المخلصين ...، ومن زعم أنّ من يقول: "إن القرآن مخلوق" يخرج من النار فهو كافر، كمن زعم أن اليهود والنصارى يخرجون من النار».
- والإمام عبد الله بن محمد بن جعفر أبو الشيخ الأصبهاني (369هـ): «ومن شك في كفر من قال: القرآن مخلوق، بعد علمه، وبعد ‌أن ‌سمع ‌من ‌العلماء ‌المرضيين ‌ذلك، ‌فهو ‌مثله».


المسألة الثالثة، زعم الوليد في خصال الخوارج الثلاث: «إلزام الآخرين بنتائج تكفيرهم الاجتهادي، فكل من كفّروه أو بدّعوه اجتهادا منهم فيجب على الغير أن يوافقهم فيه، وإن خالفهم فهو كافر أو مبتدع. وهذه بلية تكفيرية عظيمة».

مضمون هذا الكلام: إلزام المخالف بخطأ الاجتهاد تكفيرا وتبديعا من خصائص الخوارج.

وحرصا على الإيجاز أقول: من الواضح جدا في الأبحاث العقدية والمقالات: أن أهل السنة لم تخالفهم طائفة من أهل القبلة إلا كفّروها أو بدّعوها على اتفاق أو اختلاف بين أهل الأثر والفقه!

ألا ترى تكفيرهم أو تبديعهم الخوارجَ وطوائفها، والقدرية وأصنافها، والمرجئة وفرقها، والجهمية وأحزابها، والمعتزلة وأذنابها، والشيعة وأخواتها.


كما تقرّر في البحث العلمي:
أن الاتفاق على الأصل قد يخفّف من رتبة الاختلاف في التفريع عليه؛ ذلك أنّ الاختلاف في الحكم على الأشخاص يرتدّ في الغالب لتحقيق المناط في المحلّ عند المكفّر أو المبدّع أخطأ أم أصاب، ولا يجوز نسبة المخطئ في التنزيل الموافق في الأصل إلى الخارجية والمروق من الدين، وإلا فما الفرق بين تكفير الشخص وتبديعه اجتهادا وبين إلزامه الموافقة في التكفير والتبديع الاجتهادي.

هذا الأمر مستفيض في أحكام العلماء على المخالف.

فمن الصحابة رضوان الله عليهم:

1- الفاروق عمر رضي الله عنه حين أكفر حاطبا بن أبي بلتعة رضي الله عنه اجتهادا.

2- ومعاذ بن جبل رضي الله عنه حين ألزم الأنصاريَ الذي قطع صلاته التكفير والتنفيق.

3- وأسيد بن حضير رضي الله عنه حيث ألزم ابن عبادة الموافقة على قتل وتكفير ابن سلول وإلا فسعد بن عبادة منافق يجادل عن المنافقين في اجتهاد أسيد.


بناء على زعم (الوليد) فالصحابي (أسيد بن حضير) فيه خصلة خارجية وبلية عظمية حيث ألزم سعدا الموافقة على تكفيره الاجتهادي وإلا فهو منافق كافر.


4- وقتل أسامة بن زيد رضي الله عنه الرجل الذي أسلم متأولاً وهو نتيجة تكفير اجتهادي.

5- وخالد بن الوليد رضي الله عنه استباح دماء بني جذيمة نتيجة تكفير اجتهادي وهو إبقاء للأصل مع الانتقال عنه في ظاهر الشرع.

6- وبعض الصحابة رضوان الله عليهم ألزم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه تكفيرا اجتهاديا.
قال سعد رضي الله عنه: «كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث، عهد بالجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فإنا لا نراك إلا ‌قد ‌كفرت، فلقيته فأخبرته فقال: «قل لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات، وتعوذ من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن شمالك ثلاث مرات ولا تعد له».

7- وكفّر أو نفّق بعض الصحابة مالك بن الدخشن رضي الله عنه باجتهاده في تأليف المنافقين ومصاحبتهم لذلك.

8- وأبو بكر نفيع بن الحارث رضي الله عنه حين ألزم زياد بن أبيه وأمراءه الكفر ودخول النار، وألزم أنسا والبصري الموافقة.
قال الحسن البصري رحمه الله: «مرّ بي أنس بن مالك وقد بعثه زياد إلى أبي بكرة يعاتبه فانطلقت معه فدخلنا على الشيخ وهو مريض فأبلغه عنه؛ فقال: إنه يقول: ألم استعمل عبيد الله على فارس؟ ألم استعمل ورّادا على دار الرزق؟ ألم استعمل عبد الرحمن على الديوان وبيت المال؟ فقال أبو بكرة رضي الله عنه: هل زاد على أن أدخلهم النار؟
فقال أنس: إني لا أعلمه إلا مجتهدا.
قال الشيخ (أبو بكرة): أقعدوني، فقال: قلتَ: إني لا أعلمه إلا مجتهدا! وأهل حروراء قد اجتهدوا فأصابوا أم أخطأوا؟ قال أنس: فرجعنا مخصومين».
وفي رواية: «نشدتك بالله لما حدثتني عن أهل النهر أكانوا مجتهدين؟
قال: نعم.
قال: فأصابوا أم أخطأوا؟ قال: هو ذاك».

أخرجها صالح بن أحمد في مسائله (874) والخطيب في التاريخ (8/580-582) وابن عساكر (62/217، 218، 219) من طريقين عن أبي بكرة، أحدهما صحيح والأخر حسن. وانظر: تهذيب الكمال (30/7) وسير أعلام النبلاء (3/8-9).

يعني: وماذا استحقوا باجتهادهم الذي أخطأوا فيه؟
الخوارج شرّ الخلق والخليقة مع اجتهادهم! وشرّ قتلى تحت أديم السماء.

والنار المستحقة بالعمل لزياد نار كفر عند أبي بكرة كما في حديث أبي عثمان النهدي:
«كنت خليلا لابي بكرة، فقال لي: أيرى الناس أني إنما عتبت على هؤلاء للدنيا، وقد استعملوا عبيد الله – يعني ابنه -على فارس، واستعملوا روّاداً – يعني ابنه -على دار الرِّزق، واستعملوا عبد الرحمن – يعني ابنه – على الديوان وبيت المال، أفليس في هؤلاء دنيا؟ كلا، والله، إني إنما عتبت عليهم لأنهم كفروا صراحا».
تاريخ ابن أبي خيثمة (4191)، تاريخ دمشق (62/216-217)، تهذيب الكمال (30/7) هذيب تهذيب الكمال (9/238)، سير أعلام النبلاء (3/8-9).


اللهم اقطع دوابر طواغيت العرب والعجم، كما قطعت دابر طاغية الشام، وانصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأذلّ الشرك والمشركين حيثما كانوا.


‏ ‏التنبيه السابع: عند الكلام في مسائل التكفير في سياق الرد على المخالفين من عادتي النقل عن جميع الطوائف لأمور:

‏1- لا أعلم لأهل الأثر (أصحاب الحديث) مذهبا خاصّا بهم في الكفر والتكفير، والمسألة عندي من الأصول المشتركة بين الطوائف إلا ما كان من خصائص الوعيدية ونحوه.

‏2- جملة المخالفين لنا يرون العذر بالجهل والتأويل في الشرك بل يعتقدون أنه السنة المحضة والحق المبين؛ وعليه لا ملام في النقل عن أهل البدع الكفرية لأن المعيّن منهم لا يكون كافرا حتى يعاند على مذهب المخالف؛ فلا ريب أن في النقل عنه إعانة على نقض مذهبه.
3- أكثر تكفير السلف لأهل الأهواء يدور على التكفير بالمآل، والمخالفون لا يرون التكفير بلوازم الأقوال، بل هو عندهم من خصائص الخوارج؛ وعلى هذا لا وجه للاستدراك علينا في النقل عن هؤلاء في سياق الرد على المخالفين.

‏والله الموفّق.


‏تنبيهات:
‏التنبيه الأول:فيما تقدّم تحرير مذهب جمهور السلف من أصحاب الحديث وغيرهم في التكفير بلوازم الأقوال.
‏أما ما ذكره بعضهم كابن العطار والكفوي من أن جمهور العلماء على عدم التكفير بالمآل فإنما يراد به المتأخرون كما صرّح به بعض أهل العلم.


التنبيه الثاني: جمهور أهل الحديث، والجماهير من الأشعرية، والمعتزلة، والشيعة الزيدية، على التكفير بلوازم الأقوال على ما تقدّم تحقيقه.
‏وهو الذي تدلّ عليه أحكام أهل الحديث على مخالفيهم في المعتقد.


التنبيه الثالث: المتأمّل لكلام المتكلمين من أهل الحديث في أهل الأهواء تكفيرا وتبديعا أنهم يحكمون باللازم، سواء التزم به صاحبه، أو لم يلتزم به. وأن الغالب على متأخري الحنفية والمالكية في الفقه والأصول التفصيل في اللازم، والتكفير بالبيّن منه، وإن لم يلتزم به صاحبه، والغالب في متأخري الشافعية والحنبلية: عدم التكفير به مطلقا حتى يلتزم به، وهو اختيار الشيخين ابن تيمية وابن القيم وأئمة الدعوة النجديين.

‏التنبيه الرابع: اعلم أنه عند الالتزام باللازم تخرج المسِالة من حيّز التأويل إلى كفر التصريح فيكون إطلاق التكفير بلازم المذهب بعد الالتزام من باب التوسّع والتجوّز وإلا فالتكفير بالتصريح مقطوع به مجمع عليه.

‏التنبيه الخامس: اعلم أن بعض أهل العلم حصر الاختلاف في اللازم الخفي غير البيّن.
‏- قال أبو عبد الله السنوسي (895هـ):
‏«ولم يجعل الشرع التأويل ولا التقليد في الكفر الصريح عذراً لصاحبه؛ لإمكان معرفة الخطأ فيه بأدنى نظر.
‏وإنما اختلفوا فيمن قال قولا يلزم عنه النقص أو الكفر لزوما خفيا لم يشعر به قائله». شرح المقدمات (ص100).
‏نفى الخلاف في التكفير باللازم البين الظاهر وحصر الاختلاف في اللازم الخفيّ الذي لم يلتزم به.
‏- وقال محمد بن أحمد الدسوقي (1230هـ):
‏«وأما قولهم لازم المذهب ليس بمذهب فمحمول على اللازم الخفي»، «إلا أن يقال لازم المذهب ليس بمذهب كذا قيل.
‏وفيه أن هذا في اللازم غير البيّن، ولا يخفى أن اللازم هنا بيّن فلينظر ذلك». الحاشية على الشرح الكبير (4/ 301، 303).
‏- وقال أحمد بن محمد الشهير بالصاوي (1241هـ):
‏«ولا يرد علينا قولهم لازم المذهب ليس بمذهب لأنه في اللازم الخفيّ». حاشية الشرح الصغير (4/433).
‏- وقال الشيخ حسن بن محمد العطار (1250هـ):
‏«مهمتان: الأولى: قولهم لازم المذهب ليس بمذهب، مقيّد بما إذا لم يكن لازما بيّنا». حاشية العطار على شرح جمع الجوامع (1/523) (2/297).
‏- وقال الشيخ أبو عبد الله المالكي عليش (1299هـ):
‏«إنه تقرّر أنّ لازم المذهب غير البيّن ليس بمذهب».
‏وقال أيضا: «ولأنّ لازم المذهب ليس مذهباً إذا لم يكن بينّا». منح الجليل شرح مختصر خليل (9/209، 241).
‏وقال ابن عاشور(1394هـ):
‏«فالوجه التفرقة بين اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ، فيضرّ؛ لأنه كالمصرّح به، وبين غيره فلا، حتى يوقف عليه صاحبه ويقول بموجبه كما فعل فقهاء بغداد مع الحلاج» «والتحقيق التفصيل بين اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ وغيره».
‏وقال: «وفي هذه الآية دليل على أن لازم القول يعتبر قولا، وأن لازم المذهب مذهب، وهو الذي نحاه فقهاء المالكية في موجبات الردة من أقوال وأفعال». حاشية التوضيح والتصحيح (2/115، 135)، التحرير والتنوير (23/248).

التنبيه السادس: بان لك بما تقدّم أنّ أهل العلم في التكفير بلوازم الأقوال على قولين من حيث الجملة، وعلى ثلاثة أقوال عند التفصيل:
‏- التكفير به.
‏- عدم التكفير به.
‏- التفصيل بين اللازم البين والخفيّ.
‏وبعضهم نفى الاختلاف في التكفير باللازم البيّن، وآخرون أطلقوا الاختلاف في القضية.

‏على أيّ حال فالكلّ مجتمعون على أن التكفير به وعكسه من المسائل الخلافية ومن باب الراجح والمرجوح لا من باب البدعة والضلال.
‏وعليه لا يجوز إحداث ‌قول خارج عن جملة الأقوال؛ لأنه يكون مخالفا للإجماع في أن الحق في أحد الأقوال، فيكون القول الخارج خارقا للإجماع، ناسبا للأمة تضييع الحق والأمانة، مكذّبا للأخبار والإجماع في أنها لا تجتمع على ضلالة.

‏هذا إن اقتصر المتحاذق على الخروج عن أقوالهم فكيف إذا ضلّلها وحكم عليها بالخارجية والمروق من الدين بهذه المسألة، وأن التكفير بلازم المذهب والتسويغ للخلاف فيه من صفات الخوارج!
‏لا يكون هذا إلا من جملة الزنادقة الذين يطعنون في دين الأمة.


‏ ‏- وذهبت طائفة ثالثة من أهل السنة إلى: أنه لا يكفّر مسلم بشيء من الأشياء، لا بخلاف في اعتقاد ولا في غيره إلى أن تُجمِع الأمة على أحد أنه كافر، فيوقف عند إجماعهم. وهذا قول محمد بن إدريس الشافعي وداود وغيرهما.
فمما يردّ به على من كفّر مسلما بخلافٍ في بعض مسائل الاعتقادات، أن يقال له: هل ترك رسول الله uشيئا من الإسلام، مما يكفّر معتقد خلافه إلا وقد بيّنه للناس ودعا الأمة إليه؛ فهل بلغكم أنّه أوجب على أحد أن لا يقبل إسلام قرية، أو أهل حصن، أو نصراني، أو غيره، إلا بأن يدعوَ إلى تثبيت الاعتقاد في خلق القرآن أو إبطال خلقه، أو تحقيق الكلام في الإرادة، والرؤية، والاستطاعة، والجبر، وغير ذلك من حواشي الكلام، وما لم يحدث في الصدر الأول؟
‏فمن قال: إن المخالف في شيء من هذا كافر، ولا يكون مسلما حتى يعتقد الصحيح من ذلك؛ فقد أوجب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيّع دعاء الناس إلى ما لا يتمّ إسلامهم إلا به.
‏ولو جاز أن يكفّر أحد بما يؤول إليه كلامُه، لكان قائلُ هذا القول أولى الناس بالتكفير لعظيم ما يؤول إليه كلامه إن لم يقله، وإلا فيوجد في قول مكفِّره أشياء يؤول إليها كلامه، لا يقول بها، وهي توجب الكفر أيضا، وبالله التوفيق.
‏وأما من كفّر المجتهدين في الفتوى فقول ساقط، لا وجه، لأن جميع الصحابة قد اجتهدوا في الفتوى واختلفوا، فمن كفر المجتهدين في الفتوى؛ لزمه أن يكفّر الصحابة رضي الله عنهم، وفي هذا ما فيه.
‏وأما من كفّر تارك الصلاة، فإنما تعلّق بأحاديث المخرج منها سهل قريب، والكلام فيها له مكان آخر، إن شاء الله تعالى، ويكفي في الرد عليهم أنهم لا يفرّقون بين تارك الصلاة وامرأته ولا يمتنعون من أكل ذبيحته، وهذا ليس حكم الكفار...». الأصول والفروع لابن حزم (ص257- 261) باب (32).
‏وفي حكاية ابن حزم اختلاف أهل السنة إلى ثلاث طوائف في التكفير بالمآل، والتصريح بأن من المكفِّرة بالمآل في الاعتقادات: أئمة أصحاب الحديث، كعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم.
‏لا أعلّق هنا على أخطاء ابن حزم في تخطئة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في تكفير تارك الصلاة، والقائل بخلق القرآن، ونافي الرؤية، ودعوى خلاف الثوري والنعمان والشافعي لعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق في تكفير أهل البدع الكبار بمآل أقوالهم ونحوها من المسائل؛ لأن المقصود: ذكر ما حكاه عن السلف وأنه التكفير بلازم الأقوال لا بيان الراجح من أقوال المختلفين.
‏ومن الفوائد: التقرير لاختلاف أصحاب الحديث في التكفير بالمآل إلى ثلاثة طوائف، وأن من القائلين به أئمة السنة كابن المبارك وأحمد وإسحاق في آخرين.
‏وخلاصة تقريره:
‏1- اتفاق أهل السنة والجماعة على عدم التكفير بالذنوب.
‏2- أنهم اختلفوا في التكفير بترك الصلاة مع الإقرار بالوجوب.
‏3- اختلفوا في تكفير المخالف بلازم الأقوال. وبه قال بعض أئمة الحديث الكبار.
‏4- لا اتفاق من السلف إلا في نفي التكفير بالاجتهادات الفرعية والتكفير بالذنوب.

‏الحاصل: التكفير بلازم المذهب قال جمهور المتقدمين من جميع الطوائف إلا المرجئة.


‏الخامسة: الإشارة إلى عدم الاختلاف في التكفير بالكفر الصريح بين أهل القبلة.
‏8- وقال أبو محمد الفهري المصري (ابن التلمساني) (644هـ):
‏«أما ‌التكفير ‌بالمآل فاختلف فيه: فذهب الأشعرية إليه، وخالفه غيرهم.
‏وإلى هذا ميل الشافعي؛ فإنه قال بقبول شهادة المبتدعة، إلا الخطابية.
‏وسئل مالك عن القدري فقال مرة: كافر يقتل، وقال مرة: يضرب ويحبس حتى تظهر توبته، وفرقٌ بين تكذيب الله -تعالى- والكذب عليه، والأول يكفر به بالاتفاق، والثاني مختلف فيه». شرح المعالم في أصول الفقه (2/ 128).
‏وفيه حكاية التكفير بلوازم الأقوال عن الأشعرية.
‏9- وهذا ما حقّقه الأستاذ أبو بكر بن فورك (406هـ) حيث ذكر أن التكفير بلازم الأقوال مذهب أبي الحسن الأشعري قال: «وليس لشيخنا أبي الحسن كلام في التكفير في إثباته ولا في نفيه، إلا أنا تتبّعنا كتبه فاستدللنا بألفاظه على أن مذهبه تكفير المتأولين. منها:
‏- ما قال في كتاب الإيضاح في باب القدر: إن قوما دانوا بالإسلام وانتحلوه، ثم خرجوا منه خروجا ظاهرا؛ حيث قالوا: إن أعمال العباد ليست بتقدير الله تعالى ولا خلقه؛ فضاهوا المجوس.
‏- وقال في الموجز: أمّا أنا فأقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر؛ لأن الله تعالى قال خبرا عن الكفار أنهم قالوا: ﴿إن هذا إلا قول البشر﴾ ثم قال تعالى: ﴿سأصليه سقر﴾ فمن قال: إن كلامه تعالى مخلوق فقد زعم أنه مثل كلام البشر فوجب أن يصلى سقر.
‏- وقال في كتاب النوادر في باب المعلوم والمجهول: هل يجوز أن يكون الباري تعالى معلوما من وجه مجهولا من وجه آخر؟ ثم قال: على طريقة من قال بتكفير المتأولين من أصحابنا: يجوز من طريق العقل ولا يجوز من طريق الشرع؛ فإن الأمة أجمعت على أنه لا يجوز أن يكون الإنسان مؤمنا من وجهٍ كافرا من وجهٍ، فلو قلنا: إنه يعلمه من وجه فيجب أن يكون مؤمنا من ذلك الوجه وكافرا بالوجه الذي جهله، وذلك لا يجوز». شرح الإرشاد لأبي القاسم الأنصاري (3/446).
‏10- وحكى القاضي أبو بكر الباقلاني اختلاف الأشعرية في التكفير بالمآل قائلا:
‏«وقد افترق أصحابنا في هذا الباب فريقين: فقال قائلون منهم: كلّ من تأوّل تأويلا يوجب عليه قولا يكفر قائله عند الأمة فهو كافر، وإن لم يعترف بما يئول إليه قولُه، وكلّ من تأوّل تأويلا لا يوجب عليه كفرا، بل عصيانا دون الكفر، وقد نهي عن تأويله ذلك، فهو عاص بتأويله غيرُ كافر به.
‏(قال الأنصاري): فمحصول كلام القاضي: أن من أجمعت الأمة على تكفيره فهو مكفّر، ومن لم يجمعوا على تكفيره فلا يكفّر». شرح الإرشاد (3/448).
‏وقد علم المحقّقون أن للباقلاني مذهبا خاصّا به يخالف فيه الأشعرية كلّها، وافق به جمهور المرجئة في أن لا تكفير إلا لمن أجمعت على تكفيره؛ بناء على حكاية الأشعري. والظاهر أنه صادر عن المعتزلة في المقالات.
‏11- وأما المعتزلة وفرقها والزيدية فقد قال العلامة يحيى بن حمزة المعتزلي الزيدي (749هـ):
‏«والذي عليه أهل التحقيق من العدلية أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة البصرية والبغدادية هو القول بإكفار التأويل، وأن دخولَ التأويل في المذاهب لا يمنع من كونها كفرا.
‏وعلى هذا حكموا بإكفار المجبرة والمشبهة...
‏وحكى قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد في كتابه «المغنى» عن كثير من الناس بطلان القول بإكفار التأويل».
‏ثم ذكر اختلاف المعتزلة في ذلك. انظر: التحقيق في تقرير أدلة الإكفار والتفسيق (1/395).
‏12- وممن ذكر اختلاف أهل القبلة في المسألة أبو محمد ابن حزم (456هـ): «اختلف الناس في هذا المكان اختلافا شديداً؛ فذهبت:
‏- طائفة إلى: أنه من خالفهم في شيء من الاعتقاد، أو في مسائل الاجتهاد في الأحكام؛ فهو كافر.
‏- وذهبت طائفة أخرى إلى: أنه من خالفهم في شيء مما ذكرنا، فإنه يكفّر في بعض ذلك دون بعض، ويفسّق فيما لا يكفّر من ذلك.
‏- وذهبت طائفة ثالثة إلى: أن من خالفهم في الاعتقاد فهو كافر، ومن خالفهم في مسائل الاجتهاد فليس كافراً ولا فاسقا.
‏- وذهبت طائفة رابعة إلى: أنه يكفّر من خالفهم في مسائل الاعتقاد إذا كان خلافه إياهم في صفات الله عز وجل فقط. فأما سائر ذلك فإنه يفسّق ولا يكفّر.
‏- وذهبت جماعة من أصحابنا إلى: أن التكفير في الخلاف في الاعتقاد، وأما الأعمال فإنه لا يكفّر أحد بذنب إلا تارك الصلاة حتى يخرج وقتها، فإنه يكفّر بذلك. وممن قال بذلك: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن المبارك، وغيرهم.
‏- وذهب سائر أصحابنا إلى أن تارك الصلاة كغيره من الذنب لا يكفّر بذلك إذا كان مقرّاً بفرضها.


‏وهو قول أحمد بن حنبل، وكذلك قالوا في الوافقة والشاكة في هذه الأصول...»، ثم ذكر المخالفين لهم.
‏- ثم قال: «‌‌فصل في تحقيق القول في إكفار المتأولين،
‏قد ذكرنا مذاهب السلف في إكفار أصحاب البدع والأهواء المتأوّلين ممن قال قولا يؤديه مساقه إلى كفر، هو إذا وقف عليه لا يقول بما يؤديه قوله إليه.
‏وعلى اختلافهم اختلف الفقهاء والمتكلمون في ذلك، فمنهم من صوب التكفير الذي قال به الجمهور من السلف، ومنهم من أباه ولم ير إخراجهم من سواد المؤمنين، وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين وقالوا هم فساق عصاة ضلال ونورثهم من المسلمين ونحكم لهم بإحكامهم». الشفا بتعريف حقوق المصطفى (ص832- 840).
‏- وقال: «فأما ‌من ‌أثبت ‌الوصف، ونفى الصفة، فقال: أقول: عالم، ولكن لا علم له، ومتكلم، ولكن لا كلام له، وهكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزلة.
‏فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قولُه ويسوقه إليه مذهبُه كفّره؛ لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم، إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم فكأنهم صرحوا عنده بما أدّى إليه قولهم.
‏وهكذا عند هذا سائر فرق أهل التأويل من المشبهة والقدرية وغيرهم.
‏ومن لم ير أخذهم بمآل قولهم ولا ألزمهم موجب مذهبهم لم ير إكفارهم، قال: لأنهم إذا وُقِفوا على هذا قالوا: لا نقول ليس بعالم، ونحن ننتفي من القول بالمال الذي ألزمتموه لنا، ونعتقد نحن وأنتم أنه كفر، بل نقول: إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصّلناه.
‏فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل، وإذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك.
‏والصواب ترك إكفارهم والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران وإجراء حكم الإسلام عليهم... وهذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم». الشفا (ص859-860).
‏وفي تقرير القاضي عياض فوائد:
‏الفائدة الأولى: تحرير المراد بأهل الأهواء المتأولين.
‏قال: «ذكرنا مذاهب السلف في إكفار أصحاب البدع والأهواء المتأولين، ممن قال قولا يؤديه مساقه إلى كفر، وهو إذا وقف عليه لا يقول بما يؤديه قوله إليه، فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قولُه ويسوقه إليه مذهبُه كفّره»، «فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قولُه ويسوقه إليه مذهبُه كفّره..».
‏الفائدة الثانية: أن التكفير بلازم المذهب مذهب أكثر السلف، «وأكثر أقوال السلف تكفيرهم»، «وهو من قول أكثر المحدثين»، «فمنهم من صوّب التكفير الذي قال به الجمهور من السلف».
‏الفائدة الثالثة: أكثر الفقهاء والمتكلمين المتأخرين لا يرون التكفير بالإلزام: «ومنهم من أباه ولم ير إخراجهم من سواد المؤمنين، وهو قول أكثر الفقهاء المتكلمين، وقالوا: هم فساق عصاة ضلال ونورثهم من المسلمين ونحكم لهم بإحكامهم».
‏إنما قيّدته بالمتأخرين للتأليف بين النسبتين في الأكثرية.
‏الفائدة الرابعة: اختلاف الناس في إكفار المتأولين ناشئ عن اختلافهم في التكفير بالإلزام، «فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل، وإذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك».
‏الفائدة الخامسة: اختار عدم التكفير بالإلزام كما قال: «والصواب ترك إكفارهم والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم ووراثاتهم ومناكحاتهم ودياتهم والصلاة عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين وسائر معاملاتهم...».
‏5- وقال ابن رشد الحفيد (595هـ):
‏«أكثر أهل البدع إنما يكفّرون بالمآل، واختلف قول مالك في التكفير بالمآل.
‏ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لا يصرّحون بقول هو كفر، ولكن يصرّحون بأقوال يلزم عنها الكفر، وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم». بداية المجتهد (4/425).
‏6- وبه قال ابن الوزير اليماني (840هـ): «وعليه مدار ‌أكثر ‌التكفير». العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (4/ 368).
‏7- وقال العلامة القرافي أحمد بن إدريس (684 هـ) في تكفير أهل الأهواء بالتأويل:
‏«وأكثر قول مالك وأصحابه والأشعري عدم تكفير أهل الأهواء...
‏وجمهور السلف على تكفيرهم؛ نظرا إلى أنهم إنما قصدوا التعظيم مع الاعتراف بالرسالة، والتنقيص لازم لمذهبهم».
‏وقال: «وأهل البدع اختلف العلماء في تكفيرهم نظراً لما يلزم من مذهبهم من الكفر الصريح، فمن اعتبر ذلك، وجعل لازم المذهب مذهباً كَفَّرهم، ومن لم يجعل لازم المذهب مذهباً لم يُكفِّرهم، فلهذه القاعدة لمالكٍ والشافعي وأبي حنيفة والأشعري والقاضي في تكفيرهم قولان». انظر: الذخيرة في فروع المالكية (12/27)، شرح تنقيح الفصول (ص311).
‏وفي كلام أبي العباس القرافي مسائل:
‏الأولى: أكثر قول مالك وأصحاب مالك وأبي الحسن الأشعري عدم التكفير بلازم المذهب ومآل القول.
‏الثانية: جمهور السلف على تكفير أهل الأهواء بلازم المذهب.
‏الثالثة: مثار الاختلاف في تكفير أهل الأهواء هو النظر إلى ما يلزم من مذهبهم من الكفر الصريح، فمن اعتبر ذلك، وجعل لازم المذهب مذهباً كَفَّرهم، ومن لم يجعل لازم المذهب مذهباً لم يُكفِّرهم.
‏الرابعة: من أجل النظر إلى هذا المأخذ اختلف قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري وأبي بكر الباقلاني.


‏وإلى هذا ذهب النظار من أصحابه كالجويني وأبي حامد الغزالي تلميذه وابن الخطيب الرازي، وهو الرجل في الأشعرية، فالأكثر منهم على هذه المقالة.
‏وحكي عن بعضهم أنه كفّر أصحابنا والمعتزلة في القول بالمعدوم وخلق القرآن وإنكار الرؤية، إلى غير ذلك من الأمور التي عدّوها إكفارا، ومنهم من كفّر المشبّهة بالقول بالتشبيه».
‏انظر: مقالات الإسلاميين (ص1-2، 357- 358)، سير أعلام النبلاء (15/ 88)، تاريخ الإسلام (7/497)، جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر (ص144)، شرح الإرشاد للأنصاري (3/447)، التحقيق في تقرير أدلة الإكفار والتفسيق (1/397).
‏وروي هذا المذهب عن بعض الشيعة، وبعض المعتزلة.

‏القول الثاني: التكفير بالإلزام ومآل المذهب.
‏وهو قول جمهور أهل الحديث، والفقهاء، والمتكلمين، وجمهور المعتزلة، والأشعرية، والشيعة الزيدية.

‏ممن بيّن ذلك من أهل العلم:
‏1- الأستاذ أبو منصور البغدادي (429هـ):
‏«قال أكثر المعتزلة: إنّ كلّ متأوّل أدّاه تأويله إلى تشبيه الله بخلقه، أو تجويره في فعله، أو تكذيبه في خبره، فهو كافر، وتأويله كفر منه.
‏وقالوا: بتكفير أصحابنا في قولهم: خلق أعمال العباد، وبإثبات الرؤية لله عز وجل، وإثبات صفاته الأزلية.
‏قالوا: وربما صار المتأوّل بتأويله فاسقا لا كافرا، كتأويل الخوارج في قتل المسلمين وأخذ أموالهم.
‏وهذا قول أبي الهذيل والجبائي وأكثر المعتزلة....»، إلخ.
‏ثم قال: «وأما أصحابنا فإن شيخنا أبا الحسن الأشعري رحمه الله، وأكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة والجماعة قالوا: بتكفير كل مبتدع كانت بدعته كفرا، أو أدّته إلى كفر».
‏انظر: الأسماء والصفات (3/82- 85)، والناسخ والمنسوخ (ص92-94)، أصول الدين (ص340)، قضاء الأرب في أسئلة حلب للسبكي (ص521-532).
‏وعلى حكاية البغدادي: مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة والأشعرية كمذهب أكثر المعتزلة.
‏2- وذكر الخطيب البغدادي (463هـ) اختلاف أهل الحديث في الرواية عن أهل البدع والأهواء والاحتجاج برواياتهم فقال:
‏«اختلف أهل العلم في السماع من أهل البدع والأهواء كالقدرية والخوارج والرافضة، وفي الاحتجاج بما يروونه، فمنعت طائفة من السلف صحة ذلك، لعلة أنهم كفار عند من ذهب إلى ‌إكفار ‌المتأولين، وفسّاق عند من لم يحكم بكفر متأول.
‏وممن لا يروى عنه ذلك مالك بن أنس، وقال من ذهب إلى هذا المذهب: إن الكافر والفاسق بالتأويل بمثابة الكافر المعاند والفاسق العامد، فيجب ألا يقبل خبرهما ولا تثبت روايتهما.
‏وذهبت طائفة من أهل العلم إلى قبول أخبار أهل الأهواء، الذين لا يعرف منهم استحلال الكذب والشهادة لمن وافقهم بما ليس عندهم فيه شهادة، وممن قال بهذا القول من الفقهاء أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي فإنه قال: وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم، وحكى أن هذا مذهب ابن أبي ليلى وسفيان الثوري، وروي مثله عن أبي يوسف القاضي». الكفاية في علم الرواية (ص120).
‏3- ومنهم القاضي ابن العربي (543هـ):
‏«اختلف النّاس في تكفير المتأوّلين، وهم الذين لا يقصدون الكفر، وإنما يطلبون الإيمان فيخرجون إلى الكفر، والعلمَ فيؤول بهم إلى الجهل، وهي مسألة عظيمة تتعارض فيها الأدلة، ولقد نظرت فيها مرة فتارة أكفّر، وتارة أتوقّف، إلا فيمن يقول: إن القرآن مخلوق، أو أنّ مع الله خالقا سواه، فلا يدركني فيه ريب ولا أبقي له شيئا من الإيمان».
‏القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (ص: 404)، المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 398).
‏- وقال أيضا في تكفير الخوارج:
‏«قد بيّنّا في غير موضع: أنّ التكذيب على ضربين: صريح، وتأويل.
‏فأما من كذّب الله صريحاً فهو كافر بإجماعٍ.
‏وأمّا من كذّبه بتأويل: أمّا بقول يؤول إليه، أو بفعل ينتهي إليه، فقد اختلف العلماء قديماً، والصحيح أنّهم كفّار». عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (9/29).
‏أثبت اختلاف أهل العلم قديما في التكفير بمآل المذهب بل صرّح أن التكفير بخلق القرآن تكفير بالمآل كما صرّح به غيره.
‏وفي كلام القاضي بيان المراد من تكفير المتأولين عند أهل العلم.

‏4- وقال القاضي عياض بن موسى اليحصبي(544هـ):
‏«وأما من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به ليس على طريق السب ولا الردة وقصد الكفر، ولكن على طريق التأويل والاجتهاد والخطإ المفضي إلى الهوى والبدعة من تشبيه أو نعت بجارحة أو نفي صفة كمال فهذا مما اختلف السلف والخلف في تكفير قائله ومعتقده.
‏واختلف قول مالك وأصحابه في ذلك.......»، وشرح اختلاف أقوال مالك وأصحابه.
‏- ثمّ قال: «وأكثر أقوال السلف تكفيرهم.
‏وممن قال به الليث، وابن عيينة، وبن لهيعة.
‏روي عنهم ذلك فيمن قال بخلق القرآن، وقاله ابن المبارك، والأودي، ووكيع، وحفص بن غياث، وأبو إسحاق الفزارى، وعلي بن عاصم في آخرين.
‏وهو من قول أكثر المحدثين والفقهاء والمتكلمين فيهم وفى الخوارج والقدرية وأهل الأهواء المضلة وأصحاب البدع المتأولين.


‏المسألة الثانية في نقض الخصلة الثانية من خصال الخوارج في زعم الوليد:«التكفير بلوازم الأقوال ومآلاتها قبل عرضها والتزامها، فتجدهم يكفّرونك ويبدّعونك بلوازم كلامك من غير أن يعرضوه عليك.
‏وصوابها: أننا لا نكفر باللوازم والمآلات إلاّ بعد عرضها والتزامها».

‏قال أبو سلمان أيده الله:
‏بعيدا عن تشقيقات أهل الكلام وتفصيلات الأصوليين من الواجب الالتزام بقول جماعة المسلمين في الإجماع والاختلاف فكما لا يجوز لك خرق إجماعهم لا ينبغي الخروج عن اختلافهم إذا اختلفوا.
‏قال الإمام أبو عبد الله الشافعي (204هـ) رحمه الله:
‏«... قال: فما منعك من هذا القول؟
‏قلت: كلّ المختلفين مجتمعون على أن الجدّ مع الأخ مثلُه أو أكثر حظا منه، فلم يكن لي عندي خلافُهم، ولا الذهاب إلى القياس، والقياس مخرج من جميع أقاويلهم». الرسالة، فقرة: (1801)، البحر المحيط (4/542).
‏وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل (241هـ):
‏«في الصحابة إذا اختلفوا لم يخرج من أقاويلهم، أرأيت إن أجمعوا، له أن يخرج من أقاويلهم؟ هذا قول خبيث، قول أهل البدع. لا ينبغي أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا».
‏وقال: «يلزم من قال: يخرج من ‌أقاويلهم إذا اختلفوا، أن يخرج من ‌أقاويلهم إذا أجمعوا». العدة في أصول الفقه (4/ 1059، 1113)، التمهيد في أصول الفقه (3/310)، المسوّدة في أصول الفقه (ص310).
‏وقال أبو الحسن الأشعري (324هـ) أو أبو عبد الله ابن مجاهد الطائي البصري المالكي (370هـ):
‏«وأجمعوا ... على أنه لا يجوز لأحد أن يخرج عن أقاويل السلف فيما أجمعوا عليه، وعمّا اختلفوا فيه، أو في تأويله؛ لأن الحق لا يجوز أن يخرج عن أقاويلهم». رسالة إلى أهل الثغر (إجماع: 49، ص253). وقال أبو الحسن ابن القطان الفاسي (628هـ):«وأجمعوا أنه لا يجوز لأحد أن يخرج على أقاويل السلف فيما أجمعوا، وعما اختلفوا فيه أو تأويله، فإن الحق لا يجوز أن يخرج عن أقاويلهم.
‏واتفقوا أن من خالف الإجماع المتيقن أنه إجماع: كافر». الإقناع في مسائل الإجماع (1/ 69).
‏كيف لا! وقد رغب لك الناصحون من أهل العلم عن الخروج عن قول أكثر العلماء؛ لأنهم لا يجهلون معنى السنة غالبا.

‏وبناء عليه أقول: اختلف الناس في لازم القول، هل هو مذهب لصاحب القول من غير التزامٍ، أولا؟
‏ومن ثمّ اختلفوا في التكفير بمآل المذهب ولازم القول على قولين من حيث الجملة.

‏القول الأول: عدم التكفير بالإلزام ومآل المذهب.
‏وهذا قول المرجئة ومن وافقهم من أهل القبلة واشتهرت مقولتهم بـ«لازم المذهب ليس بمذهب»
‏قال أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل (326هـ):
‏«اختلف الناس في ‌إكفار ‌المتأولين وتفسيقهم».
‏قال: «وزعم أكثر المرجئة أنّهم لا يكفّرون أحدًا من المتأوّلين، ولا يكفرون إلا من أجمعت الأمّة على إكفاره».
‏وقال في مقدّمة المقالات: «اختلف الناس بعد نبيّهم صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة، ضلّل فيها بعضهم بعضا، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقا متباينين، وأحزابا متشتتين، إلا أنّ الإسلام يجمعهم ويشمل عليهم».
‏واختلفت الأشعرية في التكفير بلازم المذهب والمآل لاختلاف قول إمامهم، واختلف أصحابه في تحرير مذهبه.
‏ذكر الأستاذ ابن فورك (406هـ) أنّ كلام الأشعري في كتبه يدلّ على التكفير بالمآل كما سيأتي في القول الثاني.
‏خالفه أبو بكر الباقلاني (403هـ) حيث ذكر اختلاف قول الأشعري في الباب ثم قال: «وقال في موضع آخر: إذا لم يقل القائل بأن الله تعالى جسم، ما يوجبه عليه قولُه من أنه مؤلف مصوّر فإنه غالط في هذا القول، وإنه غير كافر بربه تعالى؛ لأنه لا يطرد قولَه بموجبه.
‏قال: وهذا يدل من كلامه على أن كلّ من قال قولا يوجب عليه الكفر لا يكفر بنفس القول متى لم يقل بالذي يوجبه عليه قوله.
‏وهذا القول أشبه بأصله، وما يذهب إليه في الكفر والإيمان لأنه يقول: الإيمان خصلة واحدة، وهو العلم بأن الباري تعالى موجود، والكفر خصلة واحدة، وهو الجهل بوجوده، وإن الإنسان لا يجوز أن يؤمن بفعل ما ليس بإيمان، وكذلك لا يجوز أن يكفر بفعل ما ليس بكفر من جميع الآراء الفاسدة؛ إذ ليس فيها كُفْرِيّته إلا أن يرد توقيف أو دليل قاطع أو إجماع على أن بعض هذه الأقوال أو الأفعال لا يقع إلا من كافر؛ فحينئذ يجب القول بأنه كافر».
‏ثم ذكر كلام الأشعري في أول المقالات وعلق عليه:
‏«فهذا تصريح منه بأنهم مسلمون جميعا مع اختلافهم فيما ذكر عنهم إلا من قال قولا ورد التوقيف أو الإجماع بأنه لا يكون إلا من كافر، أو بما يمتنع مع القول به وجودُ العلم بالله تعالى وبصدق رسله في معتقده فيكون القائل بذلك كافرا، والله أعلم بما كان الأصوبَ عنه».
‏- وقال يحيى بن حمزة العلوي (749هـ):
‏«فأما المجبرة على طبقاتهم كالأشعرية، والكلابية ، والنجارية، فقد منعوا صحّة الإكفار بالتأويل.
‏وحكي عن ابن أبي بشر الأشعري أنه قال: اختلف المسلمون بعد نبيّهم في أمور كثيرة من مسائل الديانة، ضلّل بعضهم بعضا وتبرّأ بعضهم من بعض، لكن الإيمان بالله وبرسوله يجمعهم ويعمّهم.


‏ ‏للتوضيح: عندنا صور ثلاث:
‏الأولى: فلان المعيّن، وقع في كفر، لكن علمنا أنه كان مكرها فلا يُحكم بكفره لقيام المانع من الحكم.
‏الثانية: فلان آخر وقع في كفر، وعلمنا أنه لم يكن مكرها فيحكم عليه بالكفر لقيام سبب الحكم وانتفاء المانع في حقه.
‏الثالثة: ثالث وقع في كفر، ولم يُعْلم هل كان مكرها أم طائعا؟
هذا كافر لقيام السبب وعدم الظنّ بالمانع، ولا اعتبار لاحتمال الإكراه، لأن الأصل عدم المانع، وأن من وقع في الكفر أنه كافر؛ ربطا لحكم الفعل بفاعله، ولا يفرّق بين القول وقائله ولا بين الفعل وفاعله.

‏قال أبو عبد الله المقري في الكليات الفقهية (492):
‏«كل ما دلّ على الكفر أوجب الحكم بردة من ظهر عليه».
‏وقال برهان الدين البقاعي (885هـ):
‏«كلّ من صحّت نسبة ما ظاهر الشرع الحكم بكفره إليه فهو كافر.
‏ودليل الكبرى (فهو كافر) الإجماع»،
‏«كلّ من تكلّم بما ظاهره الكفر حكمنا بكفره، ووكلنا سريرته إلى الله».
‏وقال البربهاري (329هـ):
‏«ولا نخرج أحدا من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله، أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذبح لغير الله، أو يصلي لغير الله، فإذا فعل شيئا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام».
‏وقال الإمام ابن العطار الشافعي (724هـ):
‏«وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنّ كلّ من قال قولا لزم منه انتقاص بالدِّين، أو استهانةٌ به، أو بما هو مضاف إلى الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنّه يكفر، حتى لو قال للمسجد: مسيجد، وللفقيه فقيّه، أو استهان بالعلم، أو بأهله، أو بالصالحين، أو استهزأ بالصلاة أو بأهلها، فإنّه يكفر في جميع ذلك.
‏ولم يخالفه أحد في جميع ذلك».

‏وبالله تعالى التوفيق.


‏قال العلماء: «الشارع إنما جعل للمكلف مباشرة الأسباب فقط، وأما أحكامها المرتّبة عليها فليس إلى المكلَّف، وإنما هو إلى الشارع، فهو نصب الأسباب وجعلَها مقتضياتٍ لأحكامها، وجعل السببَ مقدوراً للعبد، فإذا باشره رتّب عليه الشارع أحكامه، والحكم ليس إلى المكلف حتى يكون إيقاعه إليه».

‏8- أنه إذا انتفى القصد إلى الفعل لم ينعقد الفعل التكليفي إجماعا فلا حاجة إلى الفرق بين الفعل والفاعل؛ لأن الفعل التكليفي مركب من جزأين: صورة الفعل المجرّدة، وهي واقعة من المخطئ والمكره والمجنون والصبي والنائم، والقصد إلى معنى القول والفعل وهو منتف عن هؤلاء؛ وباجتماع الجزأين يتم الفعل التكليفي وتترتب الأحكام عليه؛ ولهذا قال أهل العلم: «الا يسمّى الفاعل على الحقيقة فاعلا إلا بقصد منه إلى الفعل»، «القول إنما يعتبر شرعا، إذا صدر عن قصد صحيح، وبسبب الإكراه ينعدم ذلك القصد؛ لأن المكره يقصد دفع الشر عن نفسه لا عين ما تكلّم به، وهو مضطر إلى هذا القصد والاختيار أيضا فيفسد قصده شرعا»، «إن انعقاد التصرفات شرعا بكلام يصدر عن قصد واختيار معتبر شرعا، ولهذا لا ينعقد شيء من ذلك بكلام الصبي، والمجنون، والنائم، وليس للمكره اختيار صحيح معتبر شرعا فيما تكلّم به، بل هو مكره عليه، والإكراه يضاد الاختيار، فإذا لم يبق له قصد معتبر شرعا التحق بالمجنون».

‏9- وأنه إذا كان الكفر يقدّر مع انتفاء القصد والاختيار والعقل فما ظنّك مع وجود القصد والعقل والاختيار؟
‏ألا ترى أنه يقدّر في المجانين والصبيان حتى تجري عليهم بعض أحكام الكفر في الدنيا.
‏هذا، وقد قرّر أهل العلم أن الكفر أسرع ثبوتا من الإسلام لأن جود المعلول عند وجود علّته أسرع ثبوتا من وجود المشرط عند الشرط.
‏قال الإمام السمعاني (489هـ): «الكفر ‌أسرع ‌ثبوتا من الإسلام، ولهذا لو جحد شرعا واحدا يكفر ولو التزم شرعا واحدا من الشرائع لم يصر مسلما». الاصطلام (1/ 295).
‏وبالجملة فإن اختيار المكلف وقصده شرط في وضع الأسباب وإلا فلا سبب ولا فعل يناط به الأحكام التكليفية.

‏10- وأنّ احتمال المانع لا يمنع الحكم إجماعا لأن الحكم يترتب على سببه (الفعل الشرعي).
‏والمراد: مانع الحكم إنما يعتبر عند قيامه بالشخص؛ فلا نكفّر من علمناه مكرَهاً لقيام المانع من الكفر والتكفير، لكن إن وجد سبب الكفر واحتمل ألّا يكون مانع واحتمل خلافه وجب تكفيره؛ لأن الأصل عدم المانع، وقد وجد السبب فوجب أن يوجد المسبب؛ ولأنّ الأصل ربط الأحكام بأسبابها، ولا يكون مجرّد الاحتمال مانعا من الحكم وإلا لم يستقم لنا حكم في الدنيا؛ ولهذا قال العلماء: «الأصل في أحوال الناس الاختيار، فكل لافظ فهو في إنشاء لفظه مختار»، «الأصل: حمله على الاختيار في دار الحرب وغيره حتى يثبت الإكراه؛ فيسقط اعتباره لقوله تعالى: ﴿إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾»، «ليس مجرّد الاحتمال مانعا، وإلا لما اقتصّ مع البيّنة؛ لقيام الاحتمال، فلم يبق إلا اعتبار الظنّ الغالب».
‏والمقصود: أنّ الأسباب الشرعية لا يجوز إهمالها بدعوى الاحتمال؛ فما كان ثابتا بقطع أو بظن لا يعارض بالوهم والشك والاحتمال؛ إذ المحتمل مشكوك فيه، والمعلوم ثابت، وعند الاحتمال لا يجوز الالتفات إلى المشكوك وترك الثابت من الأسباب؛ والقاعدة الشرعية: إلغاء كل مشكوك فيه، والعمل بالمتحقق من الأسباب أو الأصول.
‏قال شهاب الدين القرافي (684هـ):
‏«كل مشكوك فيه ملغى في الشريعة فإذا شككنا في السبب لم نرتّب عليه حكماً، أو في الشرط لم نرتّب الحكم أيضا، أو في المانع رتّبنا الحكم. فالأول (السبب) كما إذا شك: هل طلّق أم لا؟ بقيت العصمة فإن الطلاق هو سبب زوال العصمة وقد شككنا فيه فتستصحب الحال المتقدمة وإذا شككنا: هل زالت الشمس أم لا؟ لا تجب الظهر، ونظائره كثيرة. وأما الشرط؛ فكما إذا شككنا في الطهارة فإنا لا نُقدِم على الصلاة.
‏وأما المانع؛ فكما إذا شككنا في أن زيدا قبل وفاته ارتدّ أم لا؟ فإنا نورث منه استصحابا للأصل؛ لأن الكفر مانع من الإرث وقد شككنا فيه فنورث فهذه قاعدة مجمع عليها، وهي: أن كل مشكوك فيه يجعل كالمعدوم الذي يجزم بعدمه».

‏ولا نزاع بين العلماء في أنّ احتمال المانع لا يمنع من تعليق الحكم بالسبب لأنّ الأصل عدم المانع فيكتفى بالأصل العدمي.
‏قال الإمام الفقيه ابن الرفعة (710هـ):
‏«هذه قاعدة مستقرة في الشرع، أنه متى وُجِد الشكّ في شرط الشيء، لا يجوز فعله، ولا يثبت، ومن القواعد المستقرة: أنه إذا وقع الشك في المانع، رتّب الحكم».


‏تلخيص المسألة الأولى
‏كان المقصود مما سبق بيان:

‏1- الإجماع العامّ في الحكم على الناس بظاهر أفعالهم وأقوالهم في الإيمان والكفر وغيرهما.

‏2- تقرير الإجماع الخاصّ في الحكم على المرء بالكفر بظاهر فعله وقوله، وأن الجهمية والأشعرية ومن تبعهم لم يخالفوا جماعة المسلمين إلا في التلازم بين الظاهر والباطن لا في تكفيره في الحكم الدنيوي.

‏3- بيان أن الاعتماد على الظاهر في الكفر والإيمان قاعدة من قواعد الشرع الحنيف، وأن الظهور يغني عن القصد والتعيين إلا بدليل خاصّ بالمقام والمحلّ.
‏قال أبو إسحاق الشاطبي باختصار: «وكفى بذلك عمدة أنّه الحاكم بإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وطاعة المطيع، وعصيان العاصي، وعدالة العدل، وجرحة المجرح بل هو كلية التشريع، وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة».

‏4- وأن الأصل ترتّب الكفر والإكفار على سببه وهو الفعل والقول الظاهر في الكفر.
‏قال القرافي (684هـ): «وليس للمكلّف خيرة في إبطال الأسباب الشرعية، ولا في اقتطاع مسبّباتها»، و قال بن دقيق العيد (703هـ) في الأسباب: «والأصل فيها: ترتّب مسبّباتها عليها من غير اعتبار شرط في إعمال السبب»، وقال ابن تيمية (728هـ):«ترتب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء، أم أبى؛ لأن ذلك لا يقف على اختياره»، «وإذا كان كذلك لم يكن للعبد مع تعاطي السبب الموجب لهذا الحكم أن يقصد عدم الحكم، كما ليس له ذلك في كلمات الكفر»، وقال ابن القيم (751هـ): «من باشر سبب الحكم باختياره لزمه مسبّبه ومقتضاه وإن لم يرده».

‏ألا ترى الهازل يكفر مع أنه لم يقصد ولم يرد حكم الفعل لأنه قاصد للفعل الكفري، ليس المناط والسبب علمَه أو إرادتَه للحكم وإنما القصد إلى السبب اختيارا!
‏قال أهل العلم: «الهازل قاصد للفظ غير مريد لحكمه، وذلك ليس إليه، فإنما إلى المكلف الأسباب، وأما ترتب مسبباتها وأحكامها فهو إلى الشارع، قصدَه المكلف أو لم يقصده، والعبرة بقصده السبب اختياراً في حال عقله وتكليفه، فإذا قصده رتب الشارع عليه حكمه، جدّ به أو هزل».
‏تأمّل في قوله: «والعبرة بقصده السبب اختيارا فإذا قصده رتّب الشارع عليه حكمه جدّ به أو هزل».

‏5- وبيان أن الجاهل بالحكم قاصد للفعل الكفري غير قاصد لحكم الفعل ولا مريد لكنه كافر بقصده إلى الفعل اختيارا؛ فالجدّ والهزل والجهل والعلم أوصاف لا أثر لها في الحكم بالكفر والتكفير.

‏6- أما المجنون والمكره والصبي والساهي والمخطئ في القصد فلا يكفرون لانتفاء القصد إلى الفعل مع أن المكره والساهي والنائم والمخطئ عالمون بالأحكام غير جاهلين.
‏ولهذا قال أهل العلم في هؤلاء: «بخلاف النائم والمبرسم والمجنون والسكران وزائل العقل؛ فإنهم ليس لهم قصد صحيح، وليسوا مكلفين، فألفاظهم لغو بمنزلة ألفاظ الطفل الذي لا يعقل معناها ولا يقصده»،«فجميع هؤلاء لا قصد لهم، وهي العلّة في رفع أحكام التكليف عنهم»، «والمكره قد أتى باللفظ المقتضي للحكم، ولم يثبت عليه حكمه؛ لكونه غير قاصد له، فانتفى الحكم لانتفاء قصده وإرادته لموجب اللفظ»، وقالوا:«أقوال هؤلاء كلها هدرٌ، كما دل عليه الكتاب والسنة والميزان وأقوال الصحابة»، «وهذا تشريع منه سبحانه لعباده ألا يرتبوا الأحكام على الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها حقائقها ومعانيها».
‏قال الشاطبي: «القاصد لإيقاع السبب غيرَ قاصد للمسبّب لا ينفعه عدم قصده له عن وقوعه عليه، والهازل كذلك؛ لأنه قاصد لإيقاع السبب بلا شك، وهو في المسبب إما غير قاصد له بنفي ولا إثبات، وإما قاصد أن لا يقع، وعلى كل تقدير؛ فيلزمه المسبب شاء أم أبى».
‏وقال علاء الدين البخاري (730هـ): «صحة القول بالقصد والاختيار؛ ليكون القول باعتبار القصد ترجمة عما في الضمير ودليلا عليه، فيبطل أي القول عند عدم القصد.
‏ألا ترى أن الكلام لا يصح من النائم لعدم الاختيار، ولا من المجنون والصبي لعدم القصد الصحيح، فعرفنا أن صحة الكلام باعتبار كونه ترجمة عما في القلب، والإكراه دليل على أنّ المكره متكلّم لدفع الشر، لا لبيان ما هو مراد قلبه، فصار في الإفساد فوق الذي لا قصد له ولم يرد شيئا آخر؛ لأن الإكراه دال على عدم قصد القلب الذي صحة الكلام تبتنى عليه».

‏7- بيان: أن القول أو الفعل إذا كان صريحا أو ظاهراً في معناه فإنه يتضمن قصد المعنى إلا أن يُعلم قصد معتبر معارض كالإكراه. قال أهل العلم: «قصد اللفظ المتضمِّن للمعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما إلا أن يعارضه قصد آخر كالمكره»، «إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام، أو لم يظهر قصد يخالف كلامَه وجب حمل كلامه على ظاهره. وهذا حق لا ينازع فيه عالم»؛ لأن الأصل في الناس الاختيار والقصد فيكتفى بالأصل في تنزيل الأحكام على الفاعل حتى يعلم الحاكم انتفاء القصد والاختيار.


‏قال أبو إبراهيم المزني (264هـ):
‏«والإمساك عن تكفير أهل القبلة والبراءة منهم فيما أحدثوا ما لم يبتدعوا ضلالا، فمن ابتدع منهم ضلالا كان على أهل القبلة خارجا، ومن الدين مارقا، ويتقرب إلى الله عز وجل بالبراءة منه، ويهجر، ويحتقر، وتجتنب غدته فهي أعدى من غدة الجرب‌‌». «شرح السنة للمزني» (ص84)
‏قال أبو محمد البربهاري (329هـ):
‏«ولا نخرج أحدا من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله، أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يذبح لغير الله، أو يصلي لغير الله، فإذا فعل شيئا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام». شرح السنة للبربهاري (ص64).
‏وعلاء الدين ابن العطار الشافعي (724هـ):
‏«وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنّ كلّ من قال قولا لزم منه انتقاص بالدِّين، أو استهانةٌ به، أو بما هو مضاف إلى الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنّه يكفر، حتى لو قال للمسجد: مسيجد، وللفقيه فقيّه، أو استهان بالعلم، أو بأهله، أو بالصالحين، أو استهزأ بالصلاة أو بأهلها، فإنّه يكفر في جميع ذلك.
‏ولم يخالفه أحد في جميع ذلك.
‏وينبغي استنقاص المحرّفين من العلماء، والمغيّرين العلمَ، والمذلّين له، والبائعين له بثمن بخس من عرض الدنيا وشهواتها.
‏ومقتضى الكتاب العزيز والسنة النبوية تكفيرهم سواء كانوا متأوِّلين أو متعمّدين، ولا يكفر منتقِصُهُم ولا يفسّق، بل هو مثاب عليه خصوصا إذا قصد التنفيرَ عمّا هم عليه، وإظهارَ الدين والقيامَ به».الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد (ص47-48).
‏والله المستعان وعليه التكلان.


‏وقال ابن حجر الهيتمي في مواضع:«ولا نظر لاحتمال نحو نسيان؛ لأنه مانع للوقوع والأصل عدم المانع».
‏وقال فيمن وقع في كفر ثم ادّعى أنه كان مكرها واقتضته قرينة كأسر الكفار له أنه يصدق بيمينه: «تحكيما للقرينة وحلّف لاحتمال أنه مختار، فإن قُتِل قبل اليمين لم يضمن لوجود المقتضي، والأصل عدم المانع».
‏وقال الشيخ عبد الباقي الزرقاني (1099هـ):«إن الشك في الشرط يمنع من وجود الحكم كالشك في السبب بخلاف الشك في المانع كالشك في الطلاق»، وقال أيضا:«أن الشك في عدم المانع ووجوده لا يؤثر بخلاف الشك في الشرط».
‏وقال العلامة المَقبَلي (1108هـ):«الذي يخلّ بالمقتضي هو ظنّ المانع لا عدم ظنه..
‏وهذه استدلالات العلماء والعقلاء إذا تم المقتضي لا يتوقّفون إلى أن يظهر لهم عدم المانع، بل يكفيهم ألّا يظهر المانع».
‏والحاصل من تقرير القاعدة:
‏- أن الشرط العدمي والمانع شيء واحد، والأصل فيه العدم، وأن السبب يستقلّ بالحكم، ولا أثر للمانع حتى يتحقّق وجوده أو يظنّ.
‏- أنّ عدم المانع ليس جزءاً من المقتضي، بل وجوده مانع للحكم، لكن هذا مما التبس على بعضهم وتحريره من أحسن المطالب.
‏بيانه: أنّ الحكم يثبت بسببه، ووجود المانع يدفعه؛ فإذا لم يُعلم المانع استقل السبب بالحكم.
‏هذا مقصود الفقهاء بانتفاء المانع، أي عدم الظنّ بوجود المانع عند الحاكم والمفتي ونحوهما، ولا يعنون بانتفاء المانع انتفاءه حقيقة في نفس الأمر، بل المراد: ألّا يُعلم المانع أو يظن في المحل المحكوم عليه.
‏للتوضيح نقول: عندنا صور ثلاث:
‏الأولى:فلان المعيّن، وقع في كفر، لكن علمنا أنه كان مكرها فلا يُحكم بكفره لقيام المانع من الحكم.
‏الثانية: فلان آخر وقع في كفر، وعلمنا أنه لم يكن مكرها فيحكم عليه بالكفر لقيام سبب الحكم وانتفاء المانع في حقه.
‏الثالثة: آخر ثالث وقع في كفر، ولم يُعْلم هل كان مكرها أم طائعا؟
‏هذه الصورة هي محلّ الكلام بين الناس، وباختصار: صاحب الصورة الثالثة كافر مشرك لقيام السبب وعدم الظنّ بالمانع، ولا اعتبار باحتمال الإكراه، لأن الأصل ترتّب الحكم على سببه.
‏هذا مذهب العلماء من المتقدمين والمتأخرين.
‏بعد هذا التقرير فإليك بعض تطبيقات فقهاء السلف للقاعدة.
‏يقول الإمام ابن شهاب الزهري(125هـ) وربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي(136هـ) رحمهما الله في الأسير المفقود بدار الكفر: «إن تنصّر ولا يعلم أ مكره أو غيره، فرّق بينه وبين امرأته وأوقف ماله. وإن أكره على النصرانية لم يفرّق بينه وبين امرأته وأوقف ماله وينفق على امرأته من ماله».
‏وقال الإمام مالك بن أنس (179هـ) رحمه الله: «إذا تنصّر الأسير، فإن عرف أنه تنصر طائعا فرّق بينه وبين امرأته.
‏وإن أكره لم يفرّق بينه وبين امرأته. وإن لم يعلم أنه تنصّر مكرها أو طائعافرّق بينه وبين امرأته وماله في ذلك كله يوقف عليه حتى يموت فيكون في بيت مال المسلمين أو يرجع إلى الإسلام».
‏اتفق الفقهاء الثلاثة على أنّ أحكام المرتد تجري على الأسير إذا لم يعلم هل كان مكرها أم طائعا؟
‏وهذا الحكم هو الجاري على القواعد؛ فإن المانع يكون مانعا عند العلم بوجوده حقيقة أو الظنّ به، وإلا فاحتمال الإكراه في حق الأسير أقوى، ومع ذلك لم يعتبروه مانعا من التكفير والحكم بالارتداد.
‏ويلزم من يجعل الشك مانعا من الحكم الخروج من الدين؛ لأنه يلزم من هذا المذهب: ردّ العمل بظواهر الأدلة الشرعية، وشهادة العدول، وأخبار الثقات مطلقا؛ لاحتمال الفسق والخطأ المانع من قبول الشهادة والرواية، واحتمال الكذب والكفر المانع من قبول الأخبار.
‏بل يلزم ألّا يصحّح نكاح امرأة، ولا حلّ ذبيحة مسلم؛ لاحتمال أن تكون المرأة محرما له، أو معتدة من غيره، أو مشركة، وأن يكون الذابح مشركا...
‏وبعد هذه القواعد العامة في الكفر والتكفير أقول: الأصل فيمن وقع في الكفر أنه كافر؛ ربطا لحكم الفعل بفاعله، ولا يفرّق بين القول وقائله ولا بين الفعل وفاعله هذا هو الأصل عند أهل العلم.
‏قال الإمام أبو عبد الله المقري في الكليات الفقهية (492):«كل ما دلّ على الكفر أوجب الحكم بردة من ظهر عليه، ويستتاب غير الزنديق والساحر ومنتقص من تعظيمه من الإيمان ثلاثا، ويقتل من هؤلاء من لم يكن كافراً فأسلم».
‏أما التفريق بين القول والقائل وبين الفعل والفاعل فإنه يأتي كحالة استثنائية خاصة في مسائل كفر التأويل لا التصريح، ولا يجوز جعل المستثنى في الباب الأصل فيه.


‏الوجه السادس: احتمال المانع لا يمنع الحكم إجماعا لأن الحكم يترتب على سببه (الفعل الشرعي).
‏ذلك أن الأصل في أحوال الناس: الاختيار والقصد فتحمل على هذا أقوالُهم وأفعالهم حتى يظهر خلافه
‏والمراد: مانع الحكم إنما يعتبر عند قيامه بالشخص؛ فلا نكفّر من علمناه مكرَهاً لقيام المانع من الكفر والتكفير، لكن إن وجد سبب الكفر واحتمل ألّا يكون مانع واحتمل خلافه وجب تكفيره؛ لأن الأصل عدم المانع، وقد وجد السبب فوجب أن يوجد المسبب (الكفر والتكفير)؛ ولأنّ الأصل ربط الأحكام بأسبابها، ولا يكون مجرّد الاحتمال مانعا من الحكم وإلا لم يستقم لنا حكم في الدنيا.
‏- قال إمام الحرمين (478هـ): «والأصل في أحوال الناس الاختيار، فكل لافظ فهو في إنشاء لفظه مختار».
‏- وقال الإمام القرافي (684هـ) في الفعل والقول الكفري: «والأصل: حمله على الاختيار في دار الحرب وغيره حتى يثبت الإكراه؛ فيسقط اعتباره لقوله تعالى: ﴿إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾».
‏- وقال في فقهية: «ليس مجرّد الاحتمال مانعا، وإلا لما اقتصّ مع البيّنة؛ لقيام الاحتمال، فلم يبق إلا اعتبار الظنّ الغالب».
‏- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ): «إذا علمنا أنه كان كافراً ولم نعلم انتقاله استصحبنا تلك الحال فيقتل للكفر الذي الآن موجود؛ إذ الأصل بقاؤه على ما كان عليه».
‏والمقصود: أنّ الأسباب الشرعية لا يجوز إهمالها بدعوى الاحتمال؛ لأن الظنيّ لا يعارض القطعيّ، فما كان ثابتا بقطع أو بظن لا يعارض بالوهم والشك والاحتمال؛ إذ المحتمل مشكوك فيه، والمعلوم ثابت، وعند التعارض لا ينبغي الالتفات إلى المشكوك وترك الثابت من الأسباب؛ والقاعدة الشرعية: إلغاء كل مشكوك فيه، والعمل بالمتحقق من الأسباب أو الأصول.
‏حاصل الوجوه:
‏إذا جرى السبب قولا أو فعلا من المكلف أنه كافر، وهذه القاعدة تعتمد على أن الوصف إذا قام بمحل عاد حكمه على ذلك المحل دون غيره، ووجب أن يشتق لذلك المحلّ من لفظه اسم، فالمحلّ الذي قامت به الحركة والسواد والبياض كان متحرّكا أسود أبيض لا غيره، وكذلك الذي قام به الكلام والإرادة والحب والبغض والرضى هو الموصوف بأنه المتكلم المريد المحب المبغض الراضي دون غيره وما لم تقم به الصفة لا يتصف بها.
‏وأن الشخص الذي قام به الكفر يوصف بالشرك والكفر كما أن من صلى يقال له: مصلّ، ومن تكلّم يقال له: متكلّم.
‏ولا يجوز ترك العمل بالسبب المعلوم لاحتمال المانع.
‏قال الإمام شهاب الدين القرافي (684هـ) :«إن كل مشكوك فيه ملغى في الشريعة فإذا شككنا في السبب لم نرتّب عليه حكماً، أو في الشرط لم نرتّب الحكم أيضا، أو في المانع رتّبنا الحكم. فالأول (السبب) كما إذا شك: هل طلّق أم لا؟ بقيت العصمة فإن الطلاق هو سبب زوال العصمة وقد شككنا فيه فتستصحب الحال المتقدمة وإذا شككنا: هل زالت الشمس أم لا؟ لا تجب الظهر، ونظائره كثيرة. وأما الشرط؛ فكما إذا شككنا في الطهارة فإنا لا نُقدِم على الصلاة.
‏وأما المانع؛ فكما إذا شككنا في أن زيدا قبل وفاته ارتدّ أم لا؟ فإنا نورث منه استصحابا للأصل؛ لأن الكفر مانع من الإرث وقد شككنا فيه فنورث فهذه قاعدة مجمع عليها، وهي: أن كل مشكوك فيه يجعل كالمعدوم الذي يجزم بعدمه».
‏ولا نزاع بين العلماء في أنّ احتمال المانع لا يمنع من تعليق الحكم بالسبب لأنّ الأصل عدم المانع فيكتفى بالأصل العدمي.
‏وهو ما نصّ عليه القرافي بقوله:«والشك في المانع يجب عنده العمل بالسبب، أو بالدليل السابق، لا أنه يصير مشكوكًا فيه، كما إذا شك في الطلاق استصحب العصمة، أو الطهارة فاستصحب الحدث... إنما ذلك في الشك في الشرط أو السبب، أما في المانع، فلا».
‏وقال الإمام الفقيه ابن الرفعة (710هـ):«هذه قاعدة مستقرة في الشرع، أنه متى وُجِد الشكّ في شرط الشيء، لا يجوز فعله، ولا يثبت...
‏ومن القواعد المستقرة: أنه إذا وقع الشك في المانع، رتّب الحكم».
‏وقال ابن السبكي (771هـ) :«الشك في الشرط يقتضي الشك في المشروط...
‏والشك في المانع لا يقتضي الشك في الحكم، لأن الأصل عدمه».
‏وفي موضع آخر:«الأصل في المانع إذا شكّ فيه عدمه».
‏وقال الشيخ خليل بن إسحاق(776هــ): «الفرق بينهما أن الشك في الشرط أو في السبب يمنع من وجوب الحكم، بخلاف الشك في المانع، كالشك في الطلاق، والله أعلم».
‏وقال شمس الدين البرماوي(831هـ):«الشرط لا بدّ أن يكون شرطا وجوديا، وأما عدم المانع فعدمي.
‏ويظهر أثر ذلك في أن عدم المانع يكتفى فيه بالأصل، والشرط لا بدّ من تحققه.
‏فإذا شك في شيء يرجع لهذا الأصل، ولذلك عدّت الطهارة شرطا؛ لأن الشك فيها مع تيقّن ضدّها المستصحب يمنع انعقاد الصلاة.
‏قالوا: ويلزم من ادّعى اتحادهما اجتماع النقيضين فيما لو شككنا في طريان المانع، لأنا حينئذ نشك في عدمه، والفرض أن عدمه شرط.
‏فمن حيث إنه شرط: لا يوجد المشروط. ومن حيث إن الشك في طريان المانع لا أثر له: فيوجد المشروط. وهو تناقض».

Показано 20 последних публикаций.