موال الذكاء وأصحاب النشاز :
———————————-
أولعتُ زمنًا -ولا زلت- ببداية المجتهد لابن رشد؛ لما فيه من نفَس تدريبي، ونظَر تقعيدي، يجوّد أدوات المتفقه أكثر من إعطائه معلومات مجردة؛ وفيه إشارات ذكية تجعل أسناني باردة من طول التبسم، منها أنه حين شرع في كتاب الصرف في المعاملات ذكر أصول مسائل الكتاب بنظرة كلية كعادته، وجمع أجناس القضايا المبحوثة ثم التفت لفكرة مهمة ومركزية قائلًا :
"لكن لما كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي هي منطوق بها في الشرع أو قريب من المنطوق بها رأينا أن نذكر سبع مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لما يطرأ على المجتهد من مسائل هذا الباب؛ فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصّل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة وصناعة أصول الفقه، وبهذه الرتبة يسمى فقيهًا، لا بحفظ مسائل الفقه ولول بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر، وهؤلاء عرض لهم شبيع ما يعرض لمن ظن أن الخفّاف هو الذي عنده خفاف كثيرة لا الذي يقدر على عملها، وهو بيّن أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يحد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الذي يضع لكل قدم خفًا يوافقه، فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت" [1]
فأنت تراه يشير إلى الفرق بين من يحفظ المسائل، وبين من يحوي بين جنبيه ملَكة الفقه؛ فبائع الخف شيء، وصانعه شيء آخر، كما أن سارد الفقه شيء، والفقيه شيء آخر .
وهذا الشأن في كل العلوم؛ يحتاج المرء إلى استعداد فطري، وحد معقول من الذكاء، حتى يبلغ في ذلك العلم مقامًا عاليًا، ومن قصرت مداركه فإما أن يطرق علمًا آخر، أو يرتضي منزلة المقلد التابع فيه؛ ولن يخرجه ذلك عن وصف التلبس بذلك العلم . لكن حسن الإدراك فارق معتبر في صفات المجتهد بخاصة؛ فالقرافي -مثلًا- يصرح بأن العلم قد يتحول من واجب كفائي إلى عيني على الأذكياء حيث قال: "الذي يتعين لهذا من الناس من جاد حفظه، وحسن إدراكه، وطابت سجيته وسريرته، ومن لا فلا" [2] .
أما أن يبتغي المرء مضائق الفنون دون تهيؤ فطري فسيضحي حاله كما وهبه الله قدرة صوتية متوسطة؛ لكنه أبى إلا يرتقي بأدائه طبقات لا يقدر على دركها؛ فلا تسل عن النشاز، وكذلك الشأن في نشاز العقول، وقد عبر عن ذلك صراحة المرعشي، ووسم هذا المسلك بالتدبير الردئ؛ قال:
فصل في بيان التدبيرات الردية.. منها سلوك من لم يرزقه الله حدة الذهن مسالك الأذكياء، فكم من طالب لا يقدر إلا على تحصيل جليّات العقائد والفقه؛ يشتغل بالتسخ المغلقة والفنون الدقيقة، فيدع السعي فيما يمكن له تحصيله، ويصرف أيامه في الوثوب إلى ما لا تصل إليه يده، فيحرم عن جميع المطالب العلمية، ويكون في النهاية كأنه بدأ أول مرة .
وهذل الضلال ناشئ من استنكاف البليد عن ترك السلوك إلى مسالك الأذكياء، أو من جهله بمرتبة نفسه، قال في الإحياء: يظن كل أحد أنه أهل كل علم دقيق، فما من أحد إلا وهو راضٍ عن الله تعالى في كمال عقله. انتهى" [3]
نعم؛ أريق حبرٌ وافر في ذم الجهل، وهجاء التعالم؛ لكن هذه منطقة خفيّة لا تتصل بالجاهل الصِّرف؛ بل هي بأهل بالعلم ألصق، مؤداها أنك قد تكون طالب علم بعيد عن الجهل؛ لكنك مخطئ في تقدير أدواتك، وتبالغ في إحسان الظن بقدراتك، وتسلك طريقًا تقصر عنه موهبتك، فأنت في الحقيقة متلبّس بقدر زائد من الألفاظ والرسوم الذي لا تسمح به منزلتك .
ولو أنك أظهرتَ نفسك كما هي لأبنتَ عن فضلك، وقدّمت نفسك في ثوب حسن؛ لا يقصر فتظهر عورتك، ولا يسبل فتعثر فيه قدمك، لكنها كما في التناص الشعبوي معضلة الطموح البصير، والذكاء القصير، وثنائية مدّ اللفظ أطول من لحاف عقلك .
هذه الظاهرة تراها ماثلة في ألفاظ عريضة، ودعاوى نبوغ، وعناوين كتب مفخّمة، وجزم في مواطن الاحتمال، وتقحم قسري لعويصات مسائل الفكر والشريعة؛ وهي عند التحقيق تجسيد لما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله "وإعجاب كل ذي رأي برأيه" [4]
روى الواحدي عن ابن ثوابة ملحوظة بديعة تمسّ هذا الشأن، يقول فيها :
"أول من أفسد الكلام أبو الفضل [يعني : ابن العميد]؛ لأنه تخيّل مذهب الجاحظ وظنّ أنه إن تبعه لحقه، وإن تلاه أدركه، فوقع بعيدًا من الجاحظ، قريبًا من نفسه..."[5]
فهو لم يكن عديم الموهبة؛ لكنه تلبّس بثوب أكبر منه فكانت العثرة، ومعاذ الله أن يفهم الناظر أني أثبط غير الذكي؛ لكنها دعوة لمعرفة قدر النفس بصدق، وحماية جناب المعرفة من أوهام المتضخمين؛ فكم من ضلالة أنسلت بسبب تزاوج قصور الفهم مع الثقة الزائدة .
--------------
[1] بداية المجتهد (3 / 373-374) ط. حلاق
[2] الذخيرة (1 /144)
[3] ترتيب العلوم ص196
[4] رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان وفيه ضعف .
[5] الإمتاع والمؤانسة ص 54 .
———————————-
أولعتُ زمنًا -ولا زلت- ببداية المجتهد لابن رشد؛ لما فيه من نفَس تدريبي، ونظَر تقعيدي، يجوّد أدوات المتفقه أكثر من إعطائه معلومات مجردة؛ وفيه إشارات ذكية تجعل أسناني باردة من طول التبسم، منها أنه حين شرع في كتاب الصرف في المعاملات ذكر أصول مسائل الكتاب بنظرة كلية كعادته، وجمع أجناس القضايا المبحوثة ثم التفت لفكرة مهمة ومركزية قائلًا :
"لكن لما كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي هي منطوق بها في الشرع أو قريب من المنطوق بها رأينا أن نذكر سبع مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لما يطرأ على المجتهد من مسائل هذا الباب؛ فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصّل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة وصناعة أصول الفقه، وبهذه الرتبة يسمى فقيهًا، لا بحفظ مسائل الفقه ولول بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر، وهؤلاء عرض لهم شبيع ما يعرض لمن ظن أن الخفّاف هو الذي عنده خفاف كثيرة لا الذي يقدر على عملها، وهو بيّن أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يحد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الذي يضع لكل قدم خفًا يوافقه، فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت" [1]
فأنت تراه يشير إلى الفرق بين من يحفظ المسائل، وبين من يحوي بين جنبيه ملَكة الفقه؛ فبائع الخف شيء، وصانعه شيء آخر، كما أن سارد الفقه شيء، والفقيه شيء آخر .
وهذا الشأن في كل العلوم؛ يحتاج المرء إلى استعداد فطري، وحد معقول من الذكاء، حتى يبلغ في ذلك العلم مقامًا عاليًا، ومن قصرت مداركه فإما أن يطرق علمًا آخر، أو يرتضي منزلة المقلد التابع فيه؛ ولن يخرجه ذلك عن وصف التلبس بذلك العلم . لكن حسن الإدراك فارق معتبر في صفات المجتهد بخاصة؛ فالقرافي -مثلًا- يصرح بأن العلم قد يتحول من واجب كفائي إلى عيني على الأذكياء حيث قال: "الذي يتعين لهذا من الناس من جاد حفظه، وحسن إدراكه، وطابت سجيته وسريرته، ومن لا فلا" [2] .
أما أن يبتغي المرء مضائق الفنون دون تهيؤ فطري فسيضحي حاله كما وهبه الله قدرة صوتية متوسطة؛ لكنه أبى إلا يرتقي بأدائه طبقات لا يقدر على دركها؛ فلا تسل عن النشاز، وكذلك الشأن في نشاز العقول، وقد عبر عن ذلك صراحة المرعشي، ووسم هذا المسلك بالتدبير الردئ؛ قال:
فصل في بيان التدبيرات الردية.. منها سلوك من لم يرزقه الله حدة الذهن مسالك الأذكياء، فكم من طالب لا يقدر إلا على تحصيل جليّات العقائد والفقه؛ يشتغل بالتسخ المغلقة والفنون الدقيقة، فيدع السعي فيما يمكن له تحصيله، ويصرف أيامه في الوثوب إلى ما لا تصل إليه يده، فيحرم عن جميع المطالب العلمية، ويكون في النهاية كأنه بدأ أول مرة .
وهذل الضلال ناشئ من استنكاف البليد عن ترك السلوك إلى مسالك الأذكياء، أو من جهله بمرتبة نفسه، قال في الإحياء: يظن كل أحد أنه أهل كل علم دقيق، فما من أحد إلا وهو راضٍ عن الله تعالى في كمال عقله. انتهى" [3]
نعم؛ أريق حبرٌ وافر في ذم الجهل، وهجاء التعالم؛ لكن هذه منطقة خفيّة لا تتصل بالجاهل الصِّرف؛ بل هي بأهل بالعلم ألصق، مؤداها أنك قد تكون طالب علم بعيد عن الجهل؛ لكنك مخطئ في تقدير أدواتك، وتبالغ في إحسان الظن بقدراتك، وتسلك طريقًا تقصر عنه موهبتك، فأنت في الحقيقة متلبّس بقدر زائد من الألفاظ والرسوم الذي لا تسمح به منزلتك .
ولو أنك أظهرتَ نفسك كما هي لأبنتَ عن فضلك، وقدّمت نفسك في ثوب حسن؛ لا يقصر فتظهر عورتك، ولا يسبل فتعثر فيه قدمك، لكنها كما في التناص الشعبوي معضلة الطموح البصير، والذكاء القصير، وثنائية مدّ اللفظ أطول من لحاف عقلك .
هذه الظاهرة تراها ماثلة في ألفاظ عريضة، ودعاوى نبوغ، وعناوين كتب مفخّمة، وجزم في مواطن الاحتمال، وتقحم قسري لعويصات مسائل الفكر والشريعة؛ وهي عند التحقيق تجسيد لما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله "وإعجاب كل ذي رأي برأيه" [4]
روى الواحدي عن ابن ثوابة ملحوظة بديعة تمسّ هذا الشأن، يقول فيها :
"أول من أفسد الكلام أبو الفضل [يعني : ابن العميد]؛ لأنه تخيّل مذهب الجاحظ وظنّ أنه إن تبعه لحقه، وإن تلاه أدركه، فوقع بعيدًا من الجاحظ، قريبًا من نفسه..."[5]
فهو لم يكن عديم الموهبة؛ لكنه تلبّس بثوب أكبر منه فكانت العثرة، ومعاذ الله أن يفهم الناظر أني أثبط غير الذكي؛ لكنها دعوة لمعرفة قدر النفس بصدق، وحماية جناب المعرفة من أوهام المتضخمين؛ فكم من ضلالة أنسلت بسبب تزاوج قصور الفهم مع الثقة الزائدة .
--------------
[1] بداية المجتهد (3 / 373-374) ط. حلاق
[2] الذخيرة (1 /144)
[3] ترتيب العلوم ص196
[4] رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان وفيه ضعف .
[5] الإمتاع والمؤانسة ص 54 .