القناة الرسمية لـ فايز الكندري


Гео и язык канала: не указан, не указан
Категория: не указана


للاستفسار عن الكتب و غيرها يمكنك مراسلة فريق العمل @fayezalkandari

(أليس الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه)

Связанные каналы  |  Похожие каналы

Гео и язык канала
не указан, не указан
Категория
не указана
Статистика
Фильтр публикаций






جمعنا مادة الردود مع التصحيحات في ملف بي دي اف 👆




لن ينفع أمتنا وقوعها في قلب العالم إن فقدت قلبها،
ولن يعيد لها مجدَها امتلاكُها أعظم الثروات والموارد البشرية والطبيعية ما دامت قد أضاعت طريقها إلى ربها،
إن ما تحتاجه أمتنا هو من يعيدها إلى سبيل الله الموصل إلى مجد الدنيا وسعادة الآخرة، إن ركيزة التغيير الحقيقي للأمة هو وجود دعاة مؤهلين للتغيير، أهم خصائصهم الصدق، وما أقل الصادقين في زماننا، وما أكثر الدعاة الحربائيين، من الصعب أن يقتنع الداعية الحربائي بقدسية الصدق، لكن من السهل أن يضبط الصادق بوصلته،
لقد أحببته في الله لأني رأيته ليس كالبقية، عميق وليس كسطحية بعض المتعجِّلين، لقد كان صادقاً وليس كالدعاة الذين يتبعون ما تطلبه الجماهير، ولا المتسلقين على أكتاف الثورات، لقد دفع ثمن صدقه غالياً، وفي سجن بيلمارش في لندن أضاءت لحيته الطويلة شيباً، واكتسبت كلماته عمقاً،
‏أقف إجلالاً لكلماته وهو يجلد نفسه بسوط التأديب، هاضماً نفسه، مقرّاً بضعفه الإنساني، هذا الجناح المتطامن أمام حقيقة الضعف البشري قلما أراه في داعية مشهور أو جماعة إسلامية ترفع راية الحق، ‏ويزيد ذلك جمالاً أنك تسمعه من رجلٍ واسع العلم والاطلاع، وعميق في الفهم والإدراك، عاش مآسي المظلومين ونصرهم بصدق فدفع ثمن صدقه غالياً.

أما رأيه في أحداث الجزائر، فقد كانت فتنةً دهماء، حيَّرت هَوْشتُها عقولَ الخواص والعوام، ومن المعيب أن ترى من يتقحَّم غمرات الفتن في اقتتال الأحزاب فيما بينها في الشام، أو يتعاطف مع مداخلة ليبيا الوالغين في الدماء، أو تراه سمحاً مع دول تقتل الأبرياء وتسحق في السجن أحلامهم، ثم يظل سنين عدداً يلوك عثرةَ الأمس ممن برئ إلى الله منها اليوم!
لا زلت أذكر انزعاجي قبل خمس وعشرين سنة تقريباً، وأنا أستمع للشيخ ابن عثيمين في شرح بلوغ المرام، فأجاز فيه قتل نساء الكفار وأطفالهم إن فعلوا بنا ذلك، واستدل بقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، مُعَلِّلاً بأن فيها كسراً لقلوب الأعداء وإهانتهم!
وحتماً ستجد لهذه العثرات شبيهاً في أعماق كتب الفقه، لكنه ظالمٌ من تزعجه فتوى تجاوزت في رد الفعل أكثر من الفعل نفسه.

نعم لقد أخطأ، وقد تحيد بالمؤمن عاطفتُه حين يرى دماء أكثر من مئتي ألف من مؤيدي التيار الإسلامي الفائز في الانتخابات فيرتعش قلبه حَنَقاً؟ ويتسرَّع في قبول خبر من كان يظنه صادقاً، أو تأخذه حميَّتُه ليتوسَّع في فتوى رد العدوان.
نحن بحاجة اليوم إلى فتح صفحة جديدة لاستغلال كل جهدٍ دعوي، وعقلٍ مبدعٍ، وقلبٍ صادقٍ، وقلمٍ سيَّال لتوحيد الأمة وهدايتها إلى طريق الله، ومن الجحود أن نتجاهل حقيقة أن الشيخ أبي قتادة من أفضل من هدم بنيان داعش فوق رؤوسهم، هدمه بما لم يستطعه معظم العلماء، لأنه عرف من أين يضرب!
أرجوه أن يترك الساقية فهو ابن البحر، ولا يحبسه عنه سوى رَأْيٍ لو تأمله لوجد أنه في غنى عنه، وليحذر البطانة المصفقة التي يسرُّها بقاؤه محبوساً.

أراه رجل أمة لو تخلى عما يشده إلى الوراء، سبوق في مضماره لو قطع ما يقيِّد رجليه، دعائي له في ظهر الغيب أن يهديني وإياه وجميع المسلمين سواءَ السبيل، والحمد لله رب العالمين.


أعتذر جداً عن تقطيع الرد في أيام فقد كان ذلك لأسباب:
أرفق بي صحياً، وكي أُلْزِم نفسي بإعطاء الأولوية للردود فلا تضيع الأفكار وسط زحمة الأشغال، اختصرت الكثير من النقاط المهمة لشعوري بأني أصبتكم بالملل، وأرجأت الأفكار الأخرى لكتابي القادم بإذن الله.
ولم يبقَ إلا كلام من القلب للشيخ الحبيب أبي قتادة، سأكتبها غداً بإذن الله.


(١٧)
السياسة مليئة بالنجاسة، ما لم يكن منطلقها الوحيد هو شرع الله، ومشاركة (الجماعات الإسلامية) بشكل مباشر عن طريق نواب ينتمون إليها له تبعات خطيرة، فحين يخوض الدعاةُ إلى الله المعتركَ السياسي بصفة مباشرة فإنه سيكون على حساب المصداقية، سيضطرون إلى تحالفات وصفقات وتنازلات يُحَتِّمها الواقع الصعب، فلماذا نضحي بمصداقيتنا التي سيؤثر فقدانها على الدعوة؟ الدعوة التي هي أقوى ما نملك لتغيير الأفكار؟
لماذا لا تكون المشاركة عن طريق مسلمين محافظين يحمون الدعوة دون أن ينتموا إليها؟
فإن انحرفوا أو سقطوا في حبائل الإغراء لم تتحمَّل الدعوة تبعات انحرافهم وسقوطهم، على عكس ما يحدث حين يسقط أحد الدعاة ليتراقص المناوئون على قرع الطبول!
‏إن أهم ما يملكه الدعاة من رصيد هو المصداقية والنزاهة والأمانة والصدق، يجب أن نحافظ عليها ونجعل الأولوية للدعوة لا للمشاركة البرلمانية.
يُتْبَع..


‏(١٦)
أما عن حكم المشاركة البرلمانية لمصلحة شرعية، فبما أن طبيعة الحياة البرلمانية تختلف من بلد لآخر فإن حكمها يختلف تبعاً، فإن كانت هناك مصلحة شرعية من المشاركة جاز،
والدليل قوله ﷻ: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقوله (ﷺ) في الصحيحين: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، والله ﷻ أمرنا بتخفيف الشر قدر استطاعتنا، وكما قال الكثير من العلماء بأنه لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة، ولن أطيل في إيراد كلام الفقهاء والأصوليين فيها لأنها معلومة، والمشكلة في أمرين: أحدها أننا أنزلنا أحكام القدرة على العجز والسعة على الضرورة فحدث الإشكال، والثاني هو بدء النقاش بالتسليم بكفر من حكم بغير ما أنزل الله، وأرى نفسي أطلت كثيراً فليسمح لي الشيخ الكريم أبوقتادة باختصار الأمر بنقل كلام ابن تيمية رحمه الله والذي لا يجهله مثله، قال ابن تيمية في فتاواه ٥٦/٢٠: (ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفاراً كما قال تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به}، وقال تعالى عنه: {يا صاحبي السجن أربابٌ متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار}، ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادةٌ وسنةٌ في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له لكن ‏فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته مالم يكن يمكن أن يناله من دون ذلك، وهذا كله داخل في قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}).
وبرأي ابن تيمية رحمه الله ينبغي علينا أن ننقل الخلاف في المشاركة البرلمانية ولو على التسليم بكفر التشريع (ولا نسلم لما ذكرناه سابقاً) من دائرة الكفر والإيمان إلى دائرة الصواب والخطأ.

ومن الردود الغريبة التي تصيبك بالدهشة ما قاله أحد المعاصرين هداه الله بأن يوسف المذكور في الآية ليس هو يوسف الصديق، بل قد يكون رجلاً من الجن يقال له يوسف!!
وجدها في بعض الأقوال المنكرة فطار بها فرحاً ليرد بها دلالةَ الاية وسياقها الواضح!
ثم شكَّك في أن ملك مصر وقومه كانوا كفاراً، مستدلاً بقوله ﷻ: {فما زلتم في شك مما جاءكم به}!
وزعم غفر الله له أن الشك يكون للنفاق الذي لا يوجد إلا حين يكون دين الله هو الغالب، وتجاهل قوله ﷻ عن النصارى الكفار: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه}، ‏وقوله ﷻ عن قوم صالح: {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا و إننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب}، وقوله ﷻ: {وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب}، ثم ترك الآية الصريحة في مخالفة الملك لدين يوسف (ﷺ): {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله}، أي حكمه لأن حكمه فيمن سرق هو الضرب والغرم ضعفين كما قال قتادة، أما في شريعة الله المنزلة على يوسف فهي استرقاق السراق، وهنا تأتي خطورة أن تعتقد ثم تستدل لا أن تستدل ثم تعتقد!
وكما أننا نستنكر جنوح البعض نحو تمييع دين الله بعيداً عن الأدلة الشرعية لتوافق أهواءنا، فمثله الجنوح نحو التشدد دون برهان من الله، والمسلم الحق من استسلم لحكم الله وانقاد لما يريده اللهُ لا أن يقود حكمَ الله ليوافق هواه، تشدداً كان أو تمييعاً.
لكن على الصعيد العملي فإني أرى مشاركة الجماعات الإسلامية في العملية البرلمانية سيئة للغاية، لقد رأينا تغليب المصالح الحزبية بل والشخصية على المصلحة الشرعية، ثم رأينا منهم المواقف غير المنضبطة شرعياً، والمترددة بين الانبطاح أحياناً والتهور أحياناً أخرى، فكان لِزاماً على الدعاة أن يعيدوا النظر في طبيعة هذه المشاركة.
قبل أن أقول رأيي يجب أن أذكر هذه النقاط:
واهمٌ من يظن أننا قادرون على تطبيق شريعة الله عن طريق البرلمان، ولقد ذكرت في لقاء قناة التناصح تجربة جبهة الإنقاذ في الجزائر حين تمالأ عليها العالم، ينبغي أن نعرف قدراتنا وإمكانياتنا كي نحدد هدفنا على ضوئها، إن الصراع الحقيقي هو صراع أفكار، وميدانها هو الوعي، الذي ينتصر في هذه الحلبة هو الذي يستحوذ على مفتاح التغيير الحقيقي، فالدعوة هي الهدف الأعظم، وينبغي أن يكون هدف المشاركة البرلمانية هو دعم الدعوة وحماية الدعاة، فعضو البرلمان له جاهه ومكانته التي بها يقترب من صنَّاع القرار، وقد تواجه الدعوة في مسيرتها الدعوية الشاقة من يناوئها ويسعى لوأدها، لذلك هي تحتاج مِن ذوي النفوذ من يساندها ويدفع عنها عسف المبطلين، وإن كان موسى (ﷺ) بحاجة إلى مؤمن آل فرعون يآزره، وكما كان نبينا (ﷺ) بحاجة إلى مناصرة العباس، فالدعاة اليوم كذلك، فالهدف من المشاركة ليست مناوءة السلطة ومنازعتها في محيط نفوذها، بل حماية الدعوة وإزالة العقبات أمامها وفك القيود عن يدها كي تصل إلى منافذ القلوب بِحُرِّيَّة.


(١٥)
ثم أن التكفير لن يقتصر على الحاكم، بل سينسحب شئت أم أبيت على الوزراء والأعوان والجيش والشرطة ونواب البرلمان وكل من صوَّت لهم من الشعب، وقد يكمل مسيرته ليعمم التكفير على كل مفاصل الدولة كالمؤسسة الصحية والتعليمية، بحجة أنها أركان النظام ودعائمه التي من غيره سقط!
التكفيرُ نمرٌ متوحِّشٌ لن تستطيع قيادَهُ بخطامٍ في يديك الضعيفتين، فإن توقفت عن تكفير الشعب المشارك في الانتخابات بحجة الجهل فلغيرك أن يسألك: وما هي درجة العلم التي بها ينتفي جهله؟ ثم ندخل في حيص بيص!
وإن لم تكفِّر الجماعات الإسلامية المشاركة في البرلمان فإن غيرك ممن فتحت له الباب سيخالفك قائلاً:
ما الذي يميز الجماعات الإسلامية عن غيرهم ماداموا قد فعلوا ذات الفعل؟!
فيخالفك في إعذارهم بالتأويل!
ثم ‏ندخل متحمسين في دهاليز (فهم الحجة وإقامة الحجة وتوفر الشروط وانتفاء الموانع) لنخرج منها حفاة عراة مفلسين!
إن الانشغال في هداية البشر دون الانشغال في الحكم عليهم (ما لم يكن هناك إجماع متحقق يعتمد على نص صريح) يمنح الدعاة قوة على تغيير الأفكار والتغلغل في المجتمعات دون قيود، فالمدعو حين يعلم أنك تُكَفِّره أقام بينك وبينه سدوداً تحول كلماتك عن الوصول.

يُتْبَع..


‏(١٤)
من الخطأ البيِّن أن يستدل أحدهم على تكفير الآخرين بقول بعض العلماء!
فأقوالهم يستدل لها لا بها كما هو معلوم، ومن الخطأ البيِّن أن يتجرأ المسلم على التكفير لأن بعض العلماء قال به، دون أن تأخذه هيبة النصوص الشرعية المحذرة من التكفير، إنه دينٌ رحيمٌ، فتح للعباد باب الدخول في الإسلام، ثم وضع ألف قفل على باب الخروج!
وتأمل ما قاله الإمام أحمد (كما في طبقات الحنابلة ٣٤٣/١): (ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام [يقصد به ارتكاب الكبائر وما أشبه] ولا يخرجه من الإسلام شيءٌ إلا الشركُ بالله العظيم، أو يرد فريضةً من فرائض الله عز وجل جاحداً بها)، وقال ابن عبد البر (كما في التمهيد٢١/١٧):
(ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له أن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقتٍ بإجماعٍ من المسلمين، ثم أذنب ذنباً أو تأول تأويلاً فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام، لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجةً، ولا يخرج من الإسلامِ المتفق ِ عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها).

إن استسهال التكفير لأن علماء قالوا به أعظم خطراً من استسهال شرب النبيذ من غير العنب فيما دون الإسكار لأن بعض أهل الكوفة قالوا به، ومن استسهال ربا الفضل لأن أسامة رضي الله عنه قال به.
إن من عجائب الإسلام أننا لم نجد النصوصَ الشرعيةَ أكثر صراحةً‏ ووضوحاً على تكفير أحدٍ من الواردة في حق الخوارج الذين كَفَّروا المسلمين وممن قال لأخيه المسلم (يا كافر)، ‏وانظر إلى قوله (ﷺ): (أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه) متفق عليه،
تجد هذا الحديث أصرح في التكفير من قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}, لأن مصطلح الكفر يطلق شرعاً على معنيين (الأكبر والأصغر)، وبالسياق والأدلة الأخرى نبحث عن مراد الشارع، أما وصم المسلم بالكفر فجعل الشارع معناه على حسب نية المُكَفِّر بقوله: (رجعت) أي هي نفسها التي قصدتها، رجعت عليك، كفراً أكبراً أم أصغراً، وعلى الرغم من أن جمهور العلماء على عدم تكفير من رمى مسلماً بالكفر إلا أن بعضهم كفره لدلالة الحديث!
‏فاحذر من التكفير ما استطعت، فإنه كسهمٍ في كِنانتك، إن فارق قوسك صرتَ في خطرٍ عظيمٍ، إن أخطأ هدفَك سيتوجه إلى فؤادك لا محالة، إن كانت أصابتك للهدف ظنية فإياك أن ترمي، لأنك إن أخطأت فسيكون رجوع السهم عليك متيقن.
‏(اليقين لا يزول بالشك) قاعدةٌ أصيلةٌ في الأحكام الشرعية، ومن غير المعقول أن تُعتَبَرَ القاعدةُ في الوضوء والصلاة التي لا بأس من إبطالها وإعادتها من جديد، ثم لا نعتبرها في الكفر الذي له تبعات خطيرة على الأمة كلها لا على الفرد وحده؟ أنلتزمها في العبادة ولا نلتزمها في أصل الدين؟
في قوله (ﷺ): (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) رواه مسلم، وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد ‏قال: شُكِيَ إلى النبي (ﷺ) الرجل يُخَيَّل إليه أنه يجد الشيءَ في الصلاة، قال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)، وتأمل احتياطه للأنساب في قوله (ﷺ): (الولد للفراش وللعاهر الحجر) متفق عليه، هل يعقل أن يشدد شرعنا الحنيف في إثبات واقعة الزنا فيشترط أربعة شهود يرونه فيه كالرشا في البئر والميل في المكحلة، ويُلْغى اعتبار شهادة ثلاثة رجال ثقات رأوا المكروه بأم أعينهم لعدم وجود رابعٍ احتياطاً للأعراض، ثم لا يحتاط للأديان فيسمح في الاستدلال بنص شرعي محتمل اختلف فيه علماء الإسلام؟ ليستدل به على خروج الرجل من الإسلام فتجري عليه أحكام المرتد فيحل دمه وماله ويمنع من أن يرِث أو يورث ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يُتَرحَّم عليه؟ ثم إن كان الأمر يتعلق بالحكم دخلنا في غياهب ومتاهات التكفير المطلق والمعيَّن والطائفة الممتنعة، وهل انتفت موانع الجهل والتأويل والإكراه أم لا، والتيه في دهاليز قيام الحجة وفهم الحجة، وفي كل مسألة مما ذكرنا معارك بين المُكَفِّرين أنفسهم!!


(١٣)
لنتأمل قوله ﷻ:

‏{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله}
إن كان المتشابه يقع في أفصح وأبلغ كتاب في الوجود، والذي اعتنى به القراء ما لم يعتن أحد في غيره من الكتب، بضبط حروفه وجمع معانيه، فكيف بكلام البشر؟
أيُّنا لا يتعارض ظاهر كلامه في موضع مع موضع آخر؟
فقد نجد لعالم قولين متعارضين، أو قولاً مشتبهاً في أمرٍ خطير يعارضه علماء آخرون، فالحذر من تتبع المتشابه وترك المحكم الثابت في القرآن والسنة، ولنتفحص مواقع أقدامنا، وما أعظمها من كلمة: (السلامة لا يعدلها شيء)،
فالواجب أن نجعل المُحكَم هو الأصل، ونؤول المتشابه بما يتوافق مع المحكم كي لا نقع في اللبس والانحراف، فالمحكم في قضيتنا هو أن المرء إذا دخل في الإسلام بيقين لا نخرجه منه إلا بيقين، وأن نضع نصب أعيننا دوماً حديث الحبيب (ﷺ) في البخاري:
(من رمى مؤمناً بكفرٍ فهو كقتله) أي في الإثم، وإثمه ما أخبرنا الله ﷻ عنه:
{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}، فأينا يجرؤ على تقحُّم هذه الهلكات من غير برهان يقيني؟
وكما قال الشوكاني (في السيل الجرار ٥٧٨/٤):
(اعلم أن الحُكْمَ على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام و دخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقدِمَ عليه إلا ببرهانٍ أوضح من شمس النهار).
‏التكفير لا يعني القوة في الدين، وعدم التكفير لا يعني الاستهانة بهذا المنكر العظيم وهو تبديل شرع الله، ‏وقد يتساهل البعض في التكفير بسبب انغماس المُكَفَّر في المظالم والكبائر، فيتوهم سقوط اعتباره بالكلية، ويغفل عن موقف عمر رضي الله عنه في صلح الحديبية، حين كان منشأ غضبه هو الحمية لله ورسوله، فقال لرسول الله (ﷺ): (يا رسول الله أولسنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بالمشركين؟) قال: (بلى). قال: (فعلامَ نعطي الذلة في ديننا) (وفي رواية: الدنية) فقال: (أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره، ولن يضيعني)!
إنها العبودية المطلقة لحكم الله، وليس ما يهواه المتشدد من الشدة ولا المتهاون من اللين، فقال عمر: (فما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعته مخافة الكلام الذي تكلمت به يومئذ) رواه أحمد بسند صحيح، الغضب لله لن يغفر تجاوزنا حدود الله!
‏وانظر إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه في سنن أبي داود حين قال المجتهد للمقصر عندما رآه على ذنب: (أقصر)، فقال: (خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟) فقال: (والله لا يغفر الله لك)، فقبض الله أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: (أكنت بي عالماً أو كنت على ما في يدي قادراً؟)، وقال للمذنب: (اذهب فادخل الجنة برحمتي)، وقال للآخر: (اذهبوا به إلى النار)، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)، كل من يكفر أحداً من غير برهان شرعي أوضح من شمس النهار اجتمعت عليه الأمة فهو كمن يقول: والله لن يغفر الله لك إن مت على حالك هذا!
وكلٌّ حجيج نفسه.
يُتْبَع..


(١٢)
سألني أحد الأحباب قبل قليل عن كلامي في المقالات السابقة في الآية: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، فقال:
لماذا لا نقول بأن ما ورد من كلام السلف فيها أنه كفر دون كفر عن الحكم في قضية معينة لا التشريع العام؟
فأجبته: إن كان كلامهم في الآية عن الحكم في قضية معينة فهذا يعني أن الآية على فهمهم قد نزلت في الحكم في قضية معينة والكفر في الآية هو الأصغر، فكيف يستدل المُكَفِّرون بذات الآية ويخالفوا فهم السلف أنها نزلت في حكم القضية لا التشريع؟ وأن الكفر فيها هو الأكبر لا الأصغر؟ وأظنني تكلمت عن هذه النقطة في المقالات السابقة، ثم إن المتأمل سببَ نزول الآية يدرك أنها في تبديل شرع الله لا الحكم في قضية، وكما في حديث البراء بن عازب عند مسلم:
مُرَّ على النبي (ﷺ) بيهوديٍّ مُحَمَّماً مجلوداً، فدعاهم (ﷺ) فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كَثُرَ في أشرافنا ‏فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله (ﷺ): (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه)، فأَمَرَ به فرُجِم، فأنزل الله الآيات {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.
فهذا هو سبب نزول الآية، حيث بدَّل اليهود شريعة الله عليهم في الرجم، وإذا كان اللفظ العام قد ورد في سبب خاص فإن دلالته على خصوص السبب تكون قطعية، فتبديل الشرع داخلٌ في الآية بالدلالة القطعية، فإذا ثبت عن السلف تفسيرهم الكفر في الآية بالأصغر دلّ على أن حكم التشريع كذلك.
يُتْبَع..


(١١)
إن هذه المسائل (وغيرها مما لم أذكره اختصاراً) وإن توهم البعض أنه لا علاقة لها بقضيتنا الأساسية وهي تكفير من لم يحكم بما أنزل الله ﷻ، إلا أنها تجتمع معها في طريقة التعامل مع النصوص الموهمة للكفر، وتصحيح الأصل (طريقة التعامل) أولى من تصحيح الفرع، وكما في هذه الآية حين أثبت مودة حاطب لقريش:
‏ ‏{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل}
وكما قال ﷻ: (لا تجد قوماً ‏يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) ففهم منها البعض كفر من ألقى إليهم بالمودة، قال ابن عطية في الآية: (إن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون المعتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه)، وقال الطاهر بن عاشور في الآية: (اتفق علماء السنَّة على أنَّ ما دون الرضا بالكفر وممالأتهم عليه من الولاية لا يُوجب الخروج من الربقة الإسلاميّة، ولكنّه ضلال عظيم، وهو مراتب في القُوّة، بحسب قوّة الموالاة، وباختلاف أحوال المسلمين)، ‏وقال ابن تيمية: وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، وكما حصل لسعد بن عبادة حين انتصر لعبدالله بن أبي بن سلول في قصة الإفك، فقال لسعد بن معاذ: (كذبت والله، لا تقتله ولا تقدر على قتله).

ذكر الزهري وابن إسحاق وغيرها أن سبب الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} أنه لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله (ﷺ) قتلهم، فقام دونهم عبدُ الله بن أبي بن سلول، وكان حليفاً لهم، وكان لعبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله، فلما رأى عبادة منزع رسول الله (ﷺ) وما سلكته يهود من المشاقة لله ورسوله جاء إلى النبي (ﷺ) فقال: (يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم، ولا أوالي إلا الله ورسوله)، فقال عبد الله بن أبي: (أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود، فإني لابد لي منهم، إني رجل أخاف الدوائر)، ‏وحكى ابن إسحاق في السير أنه قام إلى رسول الله (ﷺ) فأدخل يده في جيب درعه (ﷺ) وقال: (يا محمد أحسن إلى موالي) فقال له الرسول (ﷺ): (أرسل الدرع من يدك)، فقال: (لا والله حتى تهبهم لي، ثلاثمئة دارع وأربعمئة حاسر أفأدعك تحصدهم في غداة واحدة؟) فقال (ﷺ): (قد وهبتهم لك)!!
يُتبَع..


(١٠)
وقد يجادلنا أحدهم فيدعي أن الخوارج إنما لم يكفرهم السلف لأنهم متأولون! فأقول: وهل اعتذر عنهم عليٌّ بذلك أم قال حين سئل عنهم: (أمشركون هم؟ فقال: من الشرك فروا، فلما سئل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، فقيل: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا)، ‏وهل اعتذر عنهم ابن بطال بأنهم متأولون أم قال: (لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين؟) وهل اعتذر عنهم ابن حجر بالتأويل في عدم كفرهم أم قال: (حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام؟)
‏وإن كان الخوارج معذورين بالتأويل مع قرب عهدهم بالنبوة ومعاصرتهم للصحابة الكرام معدن العلم وأصل الإيمان فكيف لا يعذر من جاء متعلقاً بهدبة الإسلام بعد أكثر من ألف وأربعمئة سنة؟؟

هناك قصص من سيرة الحبيب (ﷺ) تجعلنا نعيد النظر في طريقة تعاملنا مع مسائل الكفر والإيمان، وتضبط لنا معيار أحكامنا على الآخرين، أولاها قصة حاطب رضي الله عنه حين أرسل رسالته يشي بخبر مسير رسول الله (ﷺ) إلى قريش فقال معتذراً: يا رسول الله (ﷺ) مالي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله؟ وما فعلته كفراً ولا ارتداداً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، ولكنني أردت أن يكون لي عند القوم يدٌ يُدفَع بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك أحد إلا له هنالك من قومه من يدفع الله به عن أهله وماله)، فقال (ﷺ): (صدق، لا تقول له إلا خيراً)، فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} متفق عليه، يكون عيناً لمن وعلى من؟ لقريش التي قتلت ياسر وسمية، وعذبت خبيباً وبلالاً، واضطهدت رسول الله (ﷺ) وأتباعه الكرام؟ عيناً على رسول الله (ﷺ)؟ لك أن تتخيل لو وصلت رسالته إلى قريش فأخذت أهبتها للقتال، كم من المسلمين سيقتل بسبب رسالته؟ وماذا سيحل بحرم الله من القتال في ساحاته؟ وعلى الرغم من كل هذا فقد صدقه رسول الله (ﷺ)!!
بل قال لأصحابه: لا تقولوا له إلا خيراً!!
هذه القصة تضبط معيارنا الإيماني لننشغل بإصلاح الفساد لا إخراج مرتكبه من الإسلام إلا بكفر بواح لنا فيه من الله برهان لا يعتريه شك ولا مرية ولا شبهة، أما من قال بأن موالاته شرك لكن الله غفر له ذلك لأنه من أصحاب بدر! قلت: وهل يغفر الله الشرك؟

قال الشافعي في (الأم ٢٦٤/٤) حين سئل عن المسلم يكتب إلى المشركين من أهل الحرب بأن المسلمين يريدون غزوهم أو بالعورة من عوراتهم أيكون في ذلك دلالة على ممالأة المشركين؟
قال: (ليست الدلالة على عورة مسلم ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها أويتقدم في نكاية المسلمين بكفرٍ بَيِّنٍ) ثم استدل بقصة حاطب.
يُتْبَع..


(٩)
وفي (الإنصاف للمرداوي): (وعن الإمام أحمد إن الذين كفَّروا أهلَ الحق والصحابة واستحلوا دماء المسلمين بتأويل أو غيره كفار)، ثم قال: (وهو الصواب والذي ندين الله به)، والعجب حين يستدل من يكفِّر الخوارج برواية عن الإمام أحمد كما يستدل بروايات عنه من لا يُكفِّرهم! مما يجعلنا نتوقف طويلاً لنتثبت من الروايات قبل أن نستدل بها ونغلِّب الحذر والحيطة على التسرُّع والعجلة، وانظر ‏إلى الخطابي حين قال: (أجمع علماء المسلمين على أن الخوارجَ مع ضلالتهم فرقةٌ من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وإنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام) فاتعظ من ادعائه الإجماع مع أن الخلاف في حكم الخوارج ثابت مستقر، فلا تقبل دعاوى الإجماع دون تفحص وتثبت، ولي أن أعجب ممن يصرخ ‏مهللاً فرحاً حين يظفر بمثل هذه الدعاوى في ما يوافق رأيه في التكفير، بينما لو قرأ حديثاً دون إسنادٍ يصححه أبو حامد الغزالي أو غيره توقف عن قبول التصحيح حتى يرى مدخله ومخرجه ويتوثق من رواته توثيقاً واتصالاً.
ثم تأمل ورع بعض العلماء في مثل هذه المسألة التي قلَّ أن تجد لها مثيلاً في الألفاظ الدالة على كفر الخوارج، فقال القاضي عياض:
(‏كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالاً عند المتكلمين من غيرها، حتى سأل الفقيهُ عبدُ الحق الأمامَ أبا المعالي عنها فاعتذر بأن إدخالَ كافرٍ في الملة وإخراج مسلمٍ عنها عظيم في الدين، قال: وقد توقف قبله القاضي أبو بكر الباقلاني وقال: (لم يصرح القوم بالكفر وإنما قالوا أقوالاً تؤدي إلى الكفر)، ‏ثم تأمل القرطبي حين وقف متردداً في حكمهم، فلما غلبت عليه القواعد العلمية المجردة قال: (والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث)، ثم سرد القولين قائلاً: فعلى القول بتكفيرهم يُقاتَلون ويُقتَلون وتُسْبى أمالهم، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج، وعلى القول بعدم تكفيرهم يُسلك بهم مسلك أهل البغي إذا شقوا العصا ونصبوا الحرب)، ‏لكن عندما غلبت عليه الحالة الإيمانية انتصر ورعه فقال: (وباب التكفير باب خطر، ولا نعدل بالسلامة شيئاً)!!
وما أجمل كلام ابن الوزير في (إيثار الحق على الخلق ٣٨٨) حين ذكر تورع جمهور الأمة من تكفير الخوارج مع اقتضاء النصوص كفرهم: (فاعتبر مِن تورُّع الجمهور هنا وتعلَّم الورع منهم في ذلك)، وكما قال الغزالي رحمه الله في (التفرقة بين الإيمان والزندقة): ( ‏والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دماء مسلم واحد)، وصدقوا رحمهم الله.
يُتْبَع..


(٨)
وقال في (منهاج السنة ٢٤٧/٥): (ومما يدل على ‏أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم، وكان ابن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري)، وقال الشاطبي في (الاعتصام ١٨٥/٢): (‏اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء أصحاب البدع العظمى، ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم).
وقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طارق بن شهاب قال: (كنت عند علي فسئل عن أهل النهروان أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، قيل: فمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل له: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا)، وحين سئل عن أهل الجمل قال: (إخواننا بغوا علينا).
قال أبو الحسن الأشعري عن الخوارج في (مقالات الإسلاميين) ٨٧/١: (يرون قتل الأطفال) وقال: (استحلوا القتل والسبي على كل حال) فهم استحلوا الحرام المجمع عليه ورأوه ديناً يتعبَّدون الله به)،
وقال ابن تيمية عنهم في منهاج السنة ٢٤٨/٥ : (كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفِّرين لهم، وكانوا متديِّنين بذلك)، تأمل (مستحلين) و(متدينين بذلك) فالخوارج استحلوا الحرام المجمع عليه وهو حرمة دماء المسلمين وجعلوه ديناً، وهذا أقرب إلى الكفر وأشنع من تبديل حكم الله ﷻ لمصلحة دنيوية دون أن يجعله ديناً، وعلى الرغم من كل هذا اتفق الصحابة على عدم كفرهم!
واختلف العلماء فيهم من بعد الصحابة رضي الله عنهم، فاتفق جمهورهم مع قول الصحابة رضي الله عنهم، فقال ابن بطال: (‏ذهب جمهور العلماء على أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين) إلى أن قال: (لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين)، وهذه فائدة جليلة من ابن بطال رضي الله عنه ورحمه، ولنا معها وقفة لاحقاً بإذن الله، ورجَّح النووي في شرح مسلم (٥٠/٢) أن الصحيح المختار ‏الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع، وقال ابن حجر: (‏ذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فسّاق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام)، وقال مصطفى الرحيباني في (مطالب أولي النهى) (٢٧٣/٦): (ومن كفَّر أهل الحق والصحابة واستحل دماء المسلمين بتأويل فخوارج بغاة فسقة)، وفي المبدع لابن مفلح: (تتعيَّن استتابتهم فإن تابوا وإلا قُتِلوا على إفسادهم لا على كفرهم)، وقال ابن قدامة في (المغني ١٠٦/٨): ‏(الخوارج الذين يُكفِّرون بالذنب ويُكفِّرون عثمان وعلياً وطلحة والزبير وكثيراً من الصحابة ويستحِلّون دماءَ المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة حكمهم حكمهم، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء و كثير من أهل الحديث).
والذين خالفوا السلف وكفَّروا الخوارج لم يكفروهم لأن بعضهم أنكر سورة يوسف، بل لقوة الإشارات في ألفاظ الحديث الدالة على كفرهم، ‏فقال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: (الصحيح أنهم كفار لقوله (ﷺ): (يمرقون من الإسلام)، ولقوله (ﷺ): (لأقتلنهم قتل عاد وثمود) وكل منهما إنما هلك بالكفر، ولقوله (ﷺ): (هم شر الخلق) ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولقوله (ﷺ): (بأنهم أبغض الخلق إلى الله)، ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار، فكانوا هم أحق بالاسم منهم)، وآخر كلامه إنما قاله استدلالاً بقوله (ﷺ): (‏من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)،
يتبع..


(٧)
نتابع حوارنا مع الشيخ الفاضل أبي قتادة:
لا يعني حديثي عن الخوارج أني اتهم من كفَّر من لم يحكم بشرع الله أنه من الخوارج، فأنت ستجد أقوالاً لعلماء يكفِّرون من بدَّل شرع الله ﷻ، كما أنك ستجد منهم من يكفِّر الخوارج والقدرية وغيرهم من الفرق، بل ستجد من يكفِّر ما هو دون ذلك، فالتكفير بحق وباطل أمر تسلل لكل المذاهب والفرق،
لكن تمهَّل قبل أن تطير بها فرحاً، واعلم أن السلامة لا يعدلها شيء، إن كنت تنتظر في هذه المسائل مَن يأتيك ببرهان سماوي تظل أعناق خصومك لها خاضعين فأنت واهم، إنك لن تجد في عالم الأفكار دليلاً دامغاً يجبر الآخرين على التسليم، فإن صفتنا كبشر تأبى علينا (إلا من رحم الله) أن نُسَلِّم للآخر إلا من تغلَّب على حظوظ نفسه، وما أصعبها، وكما وصفنا الله ﷻ (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) ولستُ مستثنى من ذلك، لذلك كان للجانب الإيماني دور مهم في الأخذ بأيدينا إلى بر الأمان، ومن قال أن الإنسان لا ينجو إلا بسفينة العقل وحده؟
سنظل نتناقش ونتحاور ونتمارى في قضية شائكة لم تفلح الحجج وحدها في حسم الخلاف لصالح أحد الطرفين، كما لم تنجح السنون وتوالي القرون على إنهاء هذا الصراع الفكري الذي ألقى بظلاله الكئيبة على أمتنا، فكان لِزاماً لطالب النجاة في الآخرة أن ينظر إلى النصوص الشرعية بِعَيْنَي قلبه وعقله لا عقله فحسب، ويتأمل التبعات والعواقب والآثار ولا يغرق في التفاصيل التي قد تُضيِّع عليه المشهد العام الذي يحدِّد أين أنت الآن.
ولتتأمل النصوص الواردة في الخوارج تجد عجباً، سيظهر لكل منصف أن النصوص الواردة في كفرهم هي أشد تصريحاً ووضوحاً من الواردة في من لم يحكم بما أنزل الله ﷻ، بل لن تجد أصرح منها في هذا الباب على الإطلاق، ومع هذا لم يكفِّرهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، ففي الصحيحين من قصة عبدالله بن ذي الخويصرة التميمي قال (ﷺ):
(دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته ‏مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون (أي يخرجون) من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله (حديدة السهم) فلا يوجد فيه شيء (أي من أثر الصيد دماً أو فرثاً)، ثم ينظر إلى رِصافه (ما يُلْوى على النصل) فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نَضِيِّه (العود ما بين النصل والريش) فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قُذَذِه (ريش السهم) فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم)،
شبَّه سرعة دخولهم وخروجهم من الإسلام بسرعة دخول السهم وخروجه من جسد الصيد، حتى لم يبقَ لهم من أثر الإسلام شيء!
وفي رواية عند الشيخين (لأقتلنهم قتل عاد) وفي رواية مسلم (هم شر الخلق والخليقة) وفي رواية (من أبغض خلق الله) و في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح (كلاب النار)، فتأمل ألفاظ الحديث لترى أن أوصافهم المذكورة هي أوصاف الكفار الخارجين من الملة، ومع هذا كله ذكر ابن تيمية رحمه الله اتفاق الصحابة على عدم تكفيرهم،
يتبع..


(٦)
ثم ما هو القانون؟
‏هو نظام من القواعد التي تنشئها وتطبقها المؤسسات الاجتماعية أو الحكومية لتنظيم السلوك، فإذا كان هذا السلوك مخالفاً لشرع الله كان هذا القانون تبديلاً لحكم الله، فتشريع القوانين لا يختص بالسلطة العليا الممثلة بالحكومة، لكن قد يتعلق بأي مؤسسة أو جمعية أو حتى بدكان صغير يدير به حركة البيع والشراء، وقد يكون هذا القانون مكتوبا أو في حكم المكتوب كأن يجري مجرى العرف السائد الذي لا يُخالَف، فلو كان أحدهم يبيع خمراً أو يرابي أو يُدير بيت دعارة فلابد من أن يدير هذه العملية المحرمة وفق النظام الذي حدده، فهو بذلك قد بدَّل حكمَ الله، فعلى القول بكفر من بدَّل حكمَ الله فإن جميع هؤلاء قد وقعوا في الكفر، بل لازم قولهم حتى القانون الذي يُلزِمُ به الحلّاقُ زبائنه عند حلق لحاهم يدخل في الكفر المخرج من الملة!!
فإن التزموه وإلا وقعوا في التناقض.
يُتْبَع..


(٥)
وذكر ابن تيمية في الفتاوى (٢٥٤/٧) وابن القيم في كتاب الصلاة (٥٩) قول الإمام أحمد عندما سئل عن قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ما هذا الكفر؟
فقال: (كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يُختَلَفُ فيه)،
لاحظ أن الإمام أحمد رحمه الله يحدد معنى (الكافرون) في الآية، ولاحظ ورعه من التكفير حيث قال: (حتى يجيء أمر لا يختلف فيه) فجعل خلاف العلماء في التكفير سبباً يجعله يتوقف عن إخراج الناس من الملة، وقد اكتفيت بما ذكرت من أقوال في هذا الجانب خشية الإطالة.
تأمل كلام هؤلاء العلماء الأجلاء في تحديد معنى الكفر في الآية، معظمهم جعل الكفر الوارد فيها هو الكفر الذي لا يُخرِج من الملة، ومن جعله مخرجاً من الملة ربطه بالجحود كالجصاص، فمن ادعى أن الكفر الوارد في الآية مخرِج من الملة فقد خالف جميع هؤلاء الأئمة الكبار، ومن ادّعى أنهم قصدوا الحكم في قضية معينة لا التبديل والتشريع العام قلت هذه عليكم لا لكم، إذ هو اعتراف منكم أن هؤلاء العلماء فهموا بداية الآية (ومن لم يحكم) على أنها حكم في نازلة، فكيف خالفتموهم وجعلتموها في التبديل؟ عجباً كيف زعموا أن السلف استدلوا بالآية أنه من حَكَم في نازلة بغير ما أنزل الله فقد كفر كفراً أصغر ثم تراهم يفسرون ذات الآية بأن (الحكم) فيها المقصود به تبديل الشرع لا الحكم، وأن الكفر فيها مخرج من الملة؟ كلا التفسيرين لذات الآية؟
إن كان السلف قد جعلوا معنى الحكم في الآية هو في نازلة فابحثوا أنتم عن آية أخرى تسعفكم في التكفير لأن استدلالكم بهذه الآية قد سقط، إن مصطلح الكفر وإن احتملت دلالته معنيين (الأكبر والأصغر) إلا أنه لم يوضع لكل ما يدل عليه في نص واحد بل وُضِعَ لأحد معانيه، ويحدد السياق والأدلة الأخرى المعنى المقصود، لذلك لا يصح إطلاقاً إرادة جميع معاني اللفظ في نص واحد لأنه يدل على أحد معانيه على سبيل البدل لا الشمول، فتأمل.
يُتْبَع..


(٤)
أما تكفير من لم يحكم بما أنزل الله فله تبعات خطيرة سنذكرها لاحقاً بإذن الله.
عمدة أدلة القائلين بكفر من لم يحكم بما أنزل الله هو قوله ﷻ: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، وكلامي فيها على جهتين:
الأولى تحديد معنى (الكافرون) هل هو الكفر المخرج من الملة أو الأصغر، والثانية تحديد معنى (يحكم) هل المقصود به الحكم في قضية معينة أو تبديل الشرع؟
فلنحلل بنية الآية ثم لنستعرض أقوال العلماء السابقين في الآية لنرى هل يصلح استدلالهم بها أم لا؟

(ومن لم يحكم..) [من] اسم شرط جازم وهو من أدوات العموم، فيدخل في هذا العموم كل من يحكم بغير ما أنزل الله سواء في نازلة أو اثنتين أو أصلاً عاماً لتزداد عقوبته عند الله ﷻ كلما ازدادت هذه المحادّة لله ورسوله، ولا يخفى أن المبدِّل للشرع يحكم بغير ما أنزل الله كذلك، واختيرت كلمة (يحكم) بعناية للدلالة على المقصود، فلم يقل (الحاكم) لأن دلالة الفعل على المعنى أضعف من دلالة الاسم، فأقل الحكم بغير ما أنزل الله ولو في نازلة واحدة يستحق به العقوبة في آخره وهو الكفر، وعلى هذا المعنى لا يُسعِف المُكَفِّرون أن يجعلوه مخرجاً عن الملة لمخالفته تفسير السلف فعمدوا إلى تحريف معنى كلمة (ومن لم يحكم بما أنزل الله) إلى (ومن بدَّل حكم الله) من غير برهان من الله، إذ أين (لم يحكم) من (يُبَدِّل)؟
التبديل فيه معنى إضافي زائد على المعنى الوارد في كتاب الله فأين وجدوه؟ في أي آية أو سنة؟
ماذا فهم علماؤنا السابقون رحمهم الله من الكفر الوارد في الآية؟
[الكافرون] هذه الكلمة التي ينطوي في سرها المفتاحُ الذي من وجده ظهر له المعنى المراد، روى طاووس عن ابن عباس قوله في الآية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: (إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، وإنه ليس كفراً ينقل من الملة، كفر دون كفر) صححه الحاكم والذهبي والألباني، كما أخرج الآجري في الشريعة ٣٤١/١ عن سعيد بن جبير أنه قال: (ومما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله ﷻ: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ويقرؤون معها {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه فقد أشرك، فهؤلاء الأئمة مشركون، فيخرجون فيفعلون ما رأيت لأنهم يتأولون هذه الآية)
وقال ابن عبدالبر في التمهيد ١٦/١٧: (‏وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب فاحتجوا بآيات من كتاب الله ليست على ظاهرها مثل قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون})، ثم ذكر قول ابن عباس مؤيداً (ليس بكفر ينقل عن الملة ولكنه كفر دون كفر)، وقال السمعاني في تفسيره ٤٢/٢: (واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية ويقولون: ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، وأهل السنة قالوا: لا يكفر بترك الحكم)، وقال الجصاص في أحكام القرآن ٩٤/٤: (وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود)، مفهوم كلامه أن التكفير الوارد في الآية هو مخرج من الملة لكنه يجعله ما كان عن جحود،

Показано 20 последних публикаций.

1 504

подписчиков
Статистика канала