شريف محمد جابر


Гео и язык канала: не указан, не указан
Категория: не указана


ما أوسع الكلمة .. ما أضيق العالم

Связанные каналы  |  Похожие каналы

Гео и язык канала
не указан, не указан
Категория
не указана
Статистика
Фильтр публикаций


في سورة الطلاق وردت عبارة {ومن يتّق الله} ثلاث مرات، ولم ترد في القرآن إلا في هذه السورة.
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}.
وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}.
وقال عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}.
يُعلمُنا الرحمن أنّ العلاقات لا تستقرّ ولا تقوم لها قائمة إلا بتقوى الله، فالمخرج من الضيق وحصول الرزق والتيسير وتكفير السيّئات وتعظيم الأجر كلّها ثمار لتقوى الله.


"قليل دائم خير من كثير منقطع". هذه الحكمة العربية لو طُبّقتْ بعزم وصرامة لكانت نتائجها مدهشة في الإنجاز. وأبلغ منها قول الحبيب صلّى الله عليه وسلّم: "أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإنْ قلّ". وما أَحَبّه الله من الأعمال كان فيه الخير والسعادة للإنسان.

562 1 14 1 54

قد يمرّ الإنسان في حياته ببعض المتاعب، وقد تضيق عليه الدنيا بما رحبتْ، فيحتاج إلى المعاني التي تعضده وتقوّيه وتُشعره بمعنى وجوده، وهنا يأتي الناصحون من أهل التنمية البشرية وأخواتها ليزوّدوه بالنصائح البشرية العلمانية: اخرجْ في رحلة، مارس بعض الهوايات الصغيرة التي ترسم السعادة في قلبك، أنجزْ شيئا يخلّدك في الدنيا بعد مماتك أو لمجرد أن تشعر بفرح الإنجاز.. وغيرها من النصائح التي يجمعها انطلاقها من عناصر هذه الدنيا الفانية.
انقطعَ هؤلاء عن الله فزوّدوه بالأشياء الفانية كالإنسان، ولهذا تغدو تلك المعاني المبهرجة بفنّ الكلام كالفقاعات حين يحاول الإنسان الاستناد إليها بقلبه.. سرعان ما تنفقئ عن فراغ ليهوي في هوّة آلامه السحيقة!
أمّا المعاني التي يقدّمها القرآن فهي المعاني الصلبة الباقية؛ فحين يشعر الإنسان أنّه جزء من رسالة قديمة في الزمان، من لدن آدم مرورا بالأنبياء والصحابة والأولياء، وصولا إلى نفسه ونسله. رسالة الحقّ والعدل والصدق التي حملها الأنبياء وورثها عنهم أولياء الله الصالحين.. حين يشعر أنّه وليّ لله، ينصر الله ودينه والحقّ الذي جاء به حيثما كان. حينها يأنس بالله ويشعر بقيمة نفسه التي بين جنبيه ويهون كل تعبٍ وألم في دنيا الشقاء بإزاء هذا النور العظيم الذي يغمر قلبه ويسير فيه.
وحين يعلم الإنسان أنّه مأجور حتى على الشوكة يُشاكُها، يدرك أنّ الأجر الأخروي الأبدي سيتضاعف كلّما ازداد الألم. ويدرك أنّ صبره على متاعب الحياة ومسؤوليّاتها الممضّة وآلامها الكثيرة هو من "العمل الصالح" الذي يرفعه في عليّين. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.
إنّ البرّ الذي يفعله المرء في هذه الحياة وشعوره بامتداد هذا البرّ إلى الجنّة بساطًا من حرير الحقّ والنعمى في مقام الأنبياء ومستقرّ الأولياء والصالحين هو المعنى الراسخ الثابت الذي ينشل قلبه من كل ألم ويمسح عنه كل تعب.

632 0 17 1 52

لأهل عمّان والأردن خصوصًا، سيتوفّر كتابي "الذرّة التائهة" و"رسائل إلى سلمى" في معرض عمّان الدولي للكتاب في دورته الواحدة والعشرين، من 1.9.2022 حتى 10.9.2022 في جناح دار ديوان.


يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في تفسير قوله تعالى {وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}:
"وصراط العزيز الحميد هو المنهج الذي أراده للوجود واختاره للبشر لينسق خطاهم مع خطى هذا الكون الذي يعيشون فيه. وهو الناموس الذي يهيمن على أقدار هذا الكون كله، بما فيه من الحياة البشرية التي لا تنفصل في أصلها ونشأتها، ولا في نظامها وحركتها عن هذا الكون وما فيه ومن فيه.
يهدي إلى صراط العزيز الحميد بما ينشئه في إدراك المؤمن من تصور للوجود وروابطه وعلاقاته وقيمه ومكان هذا الإنسان منه، ودوره فيه وتعاون أجزاء هذا الكون من حوله - وهو معها - في تحقيق مشيئة اللّه وحكمته في خلقه وتناسق حركات الجميع وتوافقها في الاتجاه إلى بارئ الوجود.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بتصحيح منهج التفكير، وإقامته على أسس سليمة، متفقة مع الإيقاعات الكونية على الفطرة البشرية بحيث يؤدي هذا المنهج بالفكر البشري إلى إدراك طبيعة هذا الكون وخواصه وقوانينه، والاستعانة بها، والتجاوب معها بلا عداء ولا اصطدام ولا تعويق.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بمنهجه التربوي الذي يعدّ الفرد للتجاوب والتناسق مع الجماعة البشرية.
ويعدّ الجماعة البشرية للتجاوب والتناسق - أفرادا وجماعات - مع مجموعة الخلائق التي تعمر هذا الكون! ويعدّ هذه الخلائق كلها للتجاوب والتناسق مع طبيعة الكون الذي تعيش فيه.. كل ذلك في بساطة ويُسر ولين.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بما فيه من نظم وتشريعات مستقيمة مع فطرة الإنسان وظروف حياته ومعاشه الأصيلة، متناسقة مع القوانين الكلية التي تحكم بقية الأحياء وسائر الخلائق فلا يشذ عنها الإنسان بنظمه وتشريعاته. وهو أمة من هذه الأمم في نطاق هذا الكون الكبير.
إنّ هذا الكتاب هو الدليل إلى هذا الصراط. الدليل الذي وضعه خالق الإنسان وخالق الصراط، العارف بطبيعة هذا وذاك. وإنك لتكون حسن الطالع وأنت تقوم برحلة في طريق لو حصلت على دليل من وضع المهندس الذي أنشأ هذا الطريق. فكيف بمنشئ الطريق ومنشئ السالك في الطريق؟!".


لا أدري بناء على أي معيار يسمى إنسانٌ ما ناجحًا والآخر فاشلا؟ ولماذا يتحدث أحدهم وهو ما يزال حيّا عن "قصّة نجاحه"؟ بل كيف لا يخجل أن يشيد بنفسه بهذه الطريقة الفجّة؟
من الذي قرر مثلا أن الثري أنجح من الفقير؟ أو أن حامل الدكتوراة أنجح من العامل البسيط؟ ما المعيار في ذلك؟ ومن قال إن هناك تلازما بين الثراء والقدرات العلمية وبين منسوب السعادة في نفس الإنسان؟ وهل السعادة هي المتع الدنيوية الزائلة أم تكمن في الرضا الذي يغمر القلب؟
أعتقد أن تداول فكرة النجاح في الدنيا والتركيز عليها هو مفهوم غريب عن ديننا، فالإسلام ينظر إلى هذه الدنيا باعتبارها دار ممر لا دار مقرّ وإنجاز نهائي حتى يمكن لأحدهم أن يقرر بأنه "ناجح". والإسلام لا ينفي الإنجاز في الدنيا بل يحث عليه وعلى عمارة الأرض، ولكنه يرى أن العبرة بالخواتيم، فكيف يسوغ لأحدهم أن يستبق الخاتمة ويخلع هذه الألقاب على الأحياء؟
كما أن الإسلام لا يرى في مراكمة القدرات المالية (الثراء) والخبرات العلمية (الشهادات) نجاحًا بحدّ ذاتها، عن الأولى طرح لنا مثال قارون والذين يكنزون الذهب والفضة، وعن الثانية أخبرنا بالذين مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا، فليست العبرة بالقدرة المالية بل بمصارف هذا المال من الخير ذخرا للآخرة، وليست العبرة بالحصول على الشهادات ومراكمة العلم بل بالعمل النافع المبني على هذا العلم. التركيز في الإسلام هو على القيم الموصولة بالآخرة، لأنها الحياة الحقيقية الخالدة.
والقرآن يطرح مفهوما مختلفا للنجاح يسميه "الفلاح"، ومن تتبع جذر "فلح" في القرآن الكريم سيجد أنه يركز على جانب "القيم" حتى يسمّى الإنسان مفلِحًا، أما الإنجازات المادية فهي بلا رصيد من الفلاح طالما أنها لم تُستغلّ في العمل الصالح ونشر الخير والعدل والحق، وقيمة الناس لا تتغاير بتفاوتهم في الإنجازات المادية حتى يقال فلان "ناجح" وفلان "فاشل"، بل بمعيار القيم، فالتي أطعمت هرّتها ورعتْها وهي امرأة بسيطة في قرية نائية، قلبها خال من الأحقاد، وخيرُها القليل يغمر قلوب الناس وحيواتهم: مفلحة، وهي أفضل عند الله من قائد عسكري فتح الشرق والغرب ونشر العلوم والتقنيات في أرجاء الأرض وازدهرت أعظم الحضارات في عصره ولكنه كان ظالما.
تأملوا معايير القرآن {قد أفلح المؤمنون}، {قد أفلح من تزكّى}، {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، {واتّقوا الله لعلّكم تفلحون}.
وفي النفي {إنّه لا يفلح الظالمون}، {إنّه لا يفلح المجرمون}، {ولا يفلح الساحرون}، {إنّه لا يفلح الكافرون}.
القرآن يضع تركيزك على النجاح في عالم القيم قبل التفكير بالنجاح في عالم المادة، ولكن واقعنا اليوم مختلف، فتركيزنا الأساسي – إلا من رحم ربك – هو على النجاح المادي في الدنيا، وهو تركيز مرهق يزيده الإعلام إرهاقا حين يدفع الناس إلى اللهاث خلف هذا النجاح الدنيوي وتجاوز قدراتهم التي قسمها الله بينهم بعدله، فتتولّد أمراض القلوب وحالات الكآبة والحزن والكيد والحقد.
ولهذا فالأصل بالإنسان أن يبتعد بقلبه عن ملاحظة الخلق وإنجازاتهم، وأن يلاحظ وظائفه التي كُلّف بها مذ خلقه الله، وأن ينشغل فيما يجيد، ويضع أمام ناظريه نفع الناس ونشر الخير، فـ "أحبّ الناس إلى الله أنفعهم، وأحبّ الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا...".


يتمزق قلبُ الإنسان بين الحرج من المخلوقين والاحتياج إليهم، ولا يلمّ شتاته سوى ابتغاء رضا الله واللوذ به وحده؛ فلا يلاحظ قلبُه رضا غير رضاه، ولا يركن إلى شيء سواه.
يرفع الحضور الدائم لهذا المعنى رأس قلبه في هذا العالم أعلى وأعلى.. ينتقل فيه من ضيق "ماذا سيقول الناس عنّي" إلى بهجة "ما الذي يرضاه الله مني"، ومن عتامة الاعتماد على المخلوقين التي تملأ القلب اضطرابا وجزعا، إلى أنوار الاعتماد على الله التي تملأ القلب سكينة وأمنا.
ولو تأمّلتم حياة الكثير من الناس لوجدتموهم عالقين في شرنقة الحرج والاحتياج، يصوغ الناسُ حياتَهم وتتقاذفهم أهواءُ المخلوقين الضعفاء ومصالحُهم وشهواتُهم وطباعُهم.
يتحرّجون من شعيط.. وماذا على شعيط ألّا يرضى؟
ويلوذون بمعيط.. وماذا عند معيط كي يمنحه وهو الضعيف المحتاج؟
لا حب يدوم كحب الله.. ولا عُرْفَ يعلو فوق شريعته.. ولا حقيقة أجلى وأبهى من حقائق كتابه..
من عَرف هذا واستمسك به واستدفأ؛ سبح قلبه في ضياء المعرفة الحقّة، ووقف على أرضها الصلبة، وسعد وأسعد، وارتوى وروى، ومَن مثلُه حينئذ؟
اللهم حرّرْ قلوبنا من شرنقة الحرج من المخلوقين والاحتياج إليهم، وأدخلْنا في صفاء التوكل عليك وبياض رضوانك.. إنّك سميعٌ مجيب.

1k 0 23 3 61

أحب الإنسان الصادق في جميع أمره..
لا يصدق فقط في كلامه وأخباره، بل يصدق أيضا بإحساسه بالأشياء من حوله، وبملامحه وانفعالاته..
ولا أعني هنا أن يتحول الإنسان إلى مرآة تعكس داخله بأمانة تامة، فهذا أمر غير صحّي، لا يحتمله الإنسان نفسه ولا يطيقه الآخرون ولا يطلبونه منه، وستظل له عورات ذاته التي لا يحبّ أن يطلع عليها مخلوق.
ولكني أقصد ألا تتحول علاقة الإنسان بالآخرين إلى سلسلة من المجاملات والتحرزات وصياغة النفس وفقا لتوقعاتهم؛ لأنه يحمّل نفسه مسؤولية لم يوجبها عليه شرع ولا خلق، ثم هو يخفي ذاته الحقيقية ويمنع الناس من التعامل مع الإنسان الذي يمثله، فيعوّدهم على "كتالوج" استجاباته المُرْضي لتوقعاتهم حتى لو داس على أحاسيسه الحقيقية وانفعالاته الصادقة وآرائه الذاتية!
يراعي الإنسان مشاعر الناس وتحديدا أولئك الذين يهتم بهم شخصيا، فيحسن ويعفو ويتجاوز ويتلطّف، ولكنه سيؤذي علاقته بهم حين يدفعها نحو النمطية وتبادل التوقعات على طاولة بينج بونج، فحينئذ ستتساقط عن العلاقة شيئا فشيئا ملامحُ الصدق الشعوري، وسيعلوها جفاف ومسحةٌ آلية لا تليق بالإنسان.


الدعاء هو المكان الوحيد الذي يمكنك أن تمارس فيه كامل انكسارك وتزلّفك والبوح بكامل مخاوفك وارتباكك وعجزك، بكل ما تملك من استسلام مع التخلُّص من "الأنا" التي تحاول الحفاظ على الهيبة والوقار.. فلا هيبة ولا وقار أمام الخالق الذي أوجدك بعد أن لم تكن، ولا خشية من افتضاح تملّقٍ أمام من يرتضي منك التملّقَ ويعلم السرّ وأخفى!


من أراد أن ينظر إلى مأساة الإنسان في هذا العالَم فلينظر إلى الأطفال، يَقْدمون إلى هذه الدنيا باكين، ثم ما يلبثون أن يسعوا إلى طلب اهتمام الأهل، يبسمون وهم في المهد للنظرة ثم للحديث واللعب والمشاركة، ثم يحكون أفعالهم ومواهبهم عسى أن يحظوا بشيء من التقدير من الأهل، وهم في ذلك كلّه إنّما يعبّرون عن حاجة الإنسان الفطرية إلى من يعبأ به وبما يصدر عنه من أفعال.
ثم يكبر الإنسان، فإمّا أن تظلّ هذه الحاجة دنيوية محضة لا ترتفع عن عالم الناس، فيُطلب الاهتمام والتقدير من الأهل والأصدقاء والمجتمع المحلّي ومن هبّ ودبّ من روّاد مواقع التواصل وغيرهم.. أو تخترق هذا الفضاء الهشّ فتصل إلى التعلّق بالخالق عزّ وجلّ كما عبّر أولئك النّفر الكرام اللذين وصفهم الله بأولي الألباب وحكى حالهم وكلامهم في كتابه إذ قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} (آل عمران: 193). فقد أبرزوا أعمالهم لربّهم – وهو أعلم بها - طلبا لتقدير العزيز الغفور، وتقديره هنا ليس تقديرا كلاميا أو معنويّا لا قيمة له، وليس صادرا عن الضعفاء العاجزين من الناس، بل هو من الله القوي العزيز، ربّ العالمين ومالك يوم الدين، ومضمونه مغفرة الذنوب وتكفير السيّئات والتوفّي مع الأبرار، فما أعظمه من تقدير وما أجزله من عطاء!
والمساكين من الخلْق هم الذين يتعاظمون في هذه الدنيا ويراكمون الإنجازات الفانية طالبين أن يعبأ بهم الناس، فإذا هم والناس وما فعلوه إلى فناء، ولا يبقى سوى التوحيد وما بنيَ عليه كما قال سبحانه: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} (الفرقان: 77). فالسعيد مِن خلْق الله من أنعم الله عليه بذكره وقربه، فسعى إليه لا إلى الناس، حتى وهو يخدم الناس ويصانع الناس ويُحسن إلى الناس.


وفي هذه البيئة الفاسدة تقوم ملاعب الباطل والشبهات، ويفتقد الإنسان الأرضية الصلبة التي يمكن للحوار المثمر أن يقوم عليها، ويمكن لكلمة الحقّ أن تتجلّى فيها بقواطع براهينها.


{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فاتَّخَذْتُمُوهم سِخْرِيًّا حَتّى أنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وكُنْتُمْ مِنهم تَضْحَكُونَ} (المؤمنون: 109-110).

ما تخبرنا به هاتان الآيتان أنّ السخرية ليست طريق المؤمن، ولا هي منهج للحجاج والجدال والمنافحة عن دين الله، لأنّها خصلة من خصال أهل الباطل الذين أدّت بهم السخرية إلى أنْ أَنْسَتْهم ذكرَ الله.
وكثيرًا ما يلجأ بعض أهل الإيمان إلى أساليب السخرية والاستهزاء وممارسة الضحك لينالوا من أهل الباطل والضلال الذين تبدو أباطيلهم مضحكةً بحقّ في أحيان كثيرة، ولكن مقام الدعوة لا يحتمل التنازل عن الجدّية، وإنْ خالطته بعض الطرافة التي لا تتوغّل إلى التحقير والاستهزاء وممارسة الضحك على الخصم، فليس هذا هو طريق المؤمن الذي يحمل في عقله وقلبه أشرف قضيّة وأنبل رسالة.
نخطئ كثيرا حين نتبنّى هذه المنهجية، ونتبنّى أساليب تركيب المقاطع المضحكة والصور التي يسّميها الشباب "ميمز" وغير ذلك من الأساليب التي تهدف إلى السخرية من الخصم عوضًا عن مناقشة مقولاته أو تفنيدها بالبرهان، أو حتى الإعراض عنه بعد إيغاله في باطله من غير استجابة للحق، والاكتفاء بالبرهان الحاسم في تفنيد شبهته أو باطله، فالله عزّ وجلّ وجَّهَنا في كتابه إلى الإعراض عن الجاهلين بعد أن نقول لهم القول البليغ المشتمل على البرهان الساطع.
نخطئ كثيرًا حين نتبنّى أساليب السخرية لأنّنا نكون قد استوينا مع الخصم، وساهمنا في تحويل معيار الحقّ إلى من يُضحك أكثر، ومن يُحقّر خصمَه أكثر، ومن يتغلّب في ميزان الإضحاك والاستهزاء. وهو ميزان باطل لا شكّ في ذلك، ويضع منهجنا وطريقنا على قدم المساواة مع منهج المبطلين وطريقهم، وحاشَ لله أن يكون طريقُه كطريق المبطلين!
ولقد أخبرنا الله في كتابه قائلا: {وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (النساء: 140). وهذا التحذير الشديد من الله العلي الكبير له دلالة عظيمة في رفض منهج الاستهزاء المتلازم مع الكفر، ومع أنّ المثْلية في الآية ليست في أن نكون مثلهم في السخرية من دينهم، ولكنّ المؤمن حين يقرأ هذا الكلام يدرك تمام الإدراك أنّ الاستهزاء ليس هو أسلوب المؤمن في المنافحة عن دينه وفي إبطال كلام الخصوم، بل هو منهج أهل الكفر والبطلان.
وتدبّر قول الله سبحانه في وصف ما سيقوله عتاة أهل الكفر من صناديد قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة الذين ما فتئوا يسخرون من أهل الإيمان من الصحابة رضوان الله عليهم، يقول الله عزّ وجلّ: {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ} (ص: 62-63). فهم يقولون: لماذا لا نرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم معنا في النار؟ هل كنّا مخطئين حين سخرنا منهم وحقّرناهم وازدريناهم؟ أم هم في النار فعلا ولكنْ لم تقع عليهم أبصارنا؟! ولا شكّ أنّ الإجابة هي الأولى، فقد كانوا مخطئين في السخرية، وفيه دلالة على أنّ السخرية مسلك للضلالة عن الحقّ، وهي منهج لمن يرغبون بتزييف الواقع وتغيير الحقائق، فإذا جاءت الطامّة الكبرى بقي الحقّ وتلاشى الباطل، حتى لو كان متدرّعا بخطاب ساخر لاذع يتعالى به على الخلْق. والمؤمن لا يرضى أن يُلبس الحقّ الذي معه هذا اللباس الهشّ المتهالك، مهما بدا له من هيلمانه في الدنيا، ومهما بدا له من تأثيره في الناس، فهي قشرة زائفة زائلة، وكلمات الحقّ قوية بذاتها باقية.
إنّ حفاظ المؤمن على جدّيته في دعوته وسط هذا الظلام المتراكم من الاستخفاف بكل شيء وتمييع كل شيء والضحك على كلّ شيء هو رسالة مهمة في عصرنا هذا تحديدًا، فالذي ينحاز إليك لأنّك أضحكته وكنت بارعًا في السخرية من الآخرين، قد ينحاز لأهل الباطل والشبهات حين تكون قدرتهم على الإضحاك أعلى وتكون مهارتهم فيه أكبر. وهكذا تساهمُ بما لوّثتَ به خطابك في إضلال الناس وترسيخ المعايير الفاسدة في وجدانهم بدلا من تعليمهم ميزان الحق والعدل والصدق الذي أمر به الله.
إنّ الصدق مع الله ومع النفس ومع الناس هو أغلى ما يملك المؤمن، فالإيمان كلّه مبني على الصدق، ومن الصدق تنبع الجدّية في الكلام والمعاملة، والجدّية هي حبل الأمان الذي يقود الخلْق إلى الإيمان الحقّ. أما السخرية وحفلات التحقير والإضحاك فهي موطن الميوعة والتوجّس والتربّص، حيث لا معايير للحقّ قائمة، وحيث تغدو النفس أكثر تقلّبا وهشاشة واتّباعًا للانفعالات العاطفية.


هل يُعقَل أن يُخلّدَ اللهُ في النار أولئك “الهيّنين الليّنين وأصحاب القلوب الرقيقة ومن يساعدون الناس” كما يقول الشيخ بسّام جرار؟
وتلك المرأة التي جاءت من أقصى الغرب لتنصر قضايا المسلمين العادلة، كقضية فلسطين، وماتت تحت جرّافة عسكرية، أليس من الظلم أن تَخلد في النار لمجرّد كفرها بربّ العزّة؟
هذه تساؤلات كثرتْ في عصرنا هذا، وعلينا أن نقرّ بأنّها تشكّل أزمة فكرية وشعورية لدى الكثير من أبناء هذا الجيل والأجيال السابقة في مرحلة ما بعد الاستعمار. وقد حاولت في مقالي الجديد هذا معالجتها بعناية ومن مختلف الجوانب، تفكيكا للإشكال وبيانا لوجه الحقّ فيها.
أرجو لكم قراءة نافعة
https://hekmahyemanya.com/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%B3%D9%8A%D9%8F%D8%AE%D9%84%D9%91%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%81%D9%91%D8%A7%D8%B1%D9%8F-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B1-%D8%A3%D8%A8%D8%AF%D9%8B%D8%A7/


إنّ الكتاب قد تقرّر أنّه كلية الشريعة، وعمدة الملّة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسّك بشيء يخالفه. وهذا كلّه لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنّه معلوم من دين الأمة. وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتّخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مرّ الأيام والليالي، نظرًا وعملًا، لا اقتصارا على أحدهما، فيوشك أن يفوز بالبغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول. فإنْ كان قادرًا على ذلك، ولا يقدر عليه إلا من زاولَ ما يعينه على ذلك من السنة المبيّنة للكتاب، وإلا فكلام الأئمة السابقين، والسلف المتقدّمين، آخذٌ بيده في هذا المقصد الشريف، والمرتبة المنيفة.

الإمام الشاطبي – الموافقات


العيش على الحوافّ والخوف من الفوات سوطان مجدولان يجلدان روح الإنسان، يُربكان آماله ويؤقّتان فرحه، فلا يذوقُ وهو على حافّة الأشياء طمأنينةَ الاستقرار، ولا يهنأ له حضورُ الأشياء إذ يشاكسه فواتُها.
ولقد وجدتُ أعظم دواء للذعاتِ هذين السوطين أن يدرك الإنسان بأنّ هذا هو حال الدنيا بأسرها؛ حافّة تُطلّ على الآخرة، وكلّ ما فيها فائت إلى زوال.
هذا الإدراك دائم الحضور لحقيقة الدنيا يُحرّر الإنسان من طلب العيش فيها بلا حوافّ ومن الاستغراق ببهجاتها بغير مذاكرة للفوات.
وبإمكان الإنسان، لو اقترب من خالقه في صلاته ودعائه وسجوده وغمس روحه بهدايات القرآن، أن يجعل من الحافّة قفزة روحه إلى السكينة، ومن الفوات معبرها إلى أفياء اليقين، حيث لا قيمة لفوات شيء من لعاعة الدنيا حين يستقرّ القلب في تلك الأفياء.

2k 0 18 2 70

هناك قفزة كبيرة، كبيرة جدا، بين مقولة "المهم أنني راضٍ عن نفسي" ومقولة "المهم ما يرضي الله". إنها المسافة البعيدة جدّا بين اتباع الهوى واتباع الوحي، بين النار والجنّة، بين الضنك والطمأنينة، وهي المسافة ذاتها بين الليبرالية والإسلام.
في المقولة الأولى يتجاهل الإنسان ملاحظات المجتمع واعتراضاته ولكنه يستند إلى أناه وهواه ومزاجه، تلك الأنا والهوى والمزاج التي أنشأت الفعل ابتداء، أي أنّ النتيجة معروفة مسبقا: سوف يستمر فيما هو فيه سواء كان خطأ أو صوابا، غيّا أو رشادا؛ لأنّه لا يملك معيارا يقوّم انحرافه ويجُبّ جهله وضعفه. وهو مصداق قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}.
وفي المقولة الثانية يتجاهل الإنسان ملاحظات المجتمع ما لم تكن مستقاة من الشريعة وما يرتضيه الله من القيم، ويستند في تقويم أفعاله إلى الميزان الذي لا يطغى والدليل الذي لا يضلّ، فلا يزبل آراء المجتمع فحسب حين يجدها تخالف ما يرتضيه الله، بل يزبل رأيه هو ويحطّ من قيمته ويستغفر الله عليه ويؤوب إلى أحضان الكلمة الإلهية وما تُنشئه من حقّ وصدق وعدل. وهو مصداق قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، فقد تحقق بالافتقار إلى الله في القيم والشرائع كما افتقر إليه في الخَلْق والنشأة. فيا سعده وهناه!


"ليتنا بقينا على العدم الأول.. وليتنا ما شاهدنا هذا العالَم.. وليت النفس لم تتعلق بهذا البدن!".

- فخر الدين الرازي، معبّرا عن أقسى حالات الضعف الإنساني.

وقد سبقته البتول في ذلك {قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا}.

هكذا يحدث للإنسان حين يسقط في الحيرة والضعف، يتمنّى لو لم يكن، فلا شيء في نفسه قادر على احتمال هذا العبء، فهو فقير دوما إلى بارئه ومصوّره والمنعم عليه، ولهذا قال {ففرّوا إلى الله}، لأن الأمر لا يحتمل التفكير والحيرة والتباطؤ، فمن عرف أن له ربّا خالقا هاديا وقرأ {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} كيف يمكث في الحيرة والتهوّك؟ وكيف يتلكأ في السير إلى ربّه؟

وما أشد شقوة أولئك الذين غرقوا في خرافات "الاعتماد المطلق على الذات" وطلّقوا كل صلة بربّهم فلم يعد لديهم ركن ركين يفرّون إليه في الملمات المشقيات.. أيُّ حياة حزينة تلك التي يحار فيها الإنسان أو يضعف أو يتألم فلا يجد ركنا ركينا يستقر قلبه عنده.. إنها حياة لا تليق بالإنسان، لأنها أكبر من قدرة الإنسان على الاحتمال، وحينئذ يكون "العدم الأول" خيرا من تلك الحياة!


هناك نصائح فردانية تكون مدمّرة حين يأخذها الإنسان إلى مداها الأخير، مثل "لا تهتم لأحد"، "تصالح مع ذاتك"، "سامح نفسك". هذه النصائح تعزز في الإنسان اتباع الهوى، فبدلا من تغيير عاداته السيئة وصفاته القبيحة يتصالح معها بحجة أنها "طبيعته"، فيلصقها بذاته ويتصالح مع هذه الأورام الخبيثة بدلا من استئصالها. كما أنه يسامح نفسه على الذنوب التي اقترفتها بدلا من لومها وترويضها وإلزامها بالحق والعدل والصدق.
النفس كالفرس التي تحتاج إلى ترويض كل العمر، لا ينبغي للمرء كيّها وضربها على كلّ زلّة، ولكنه لا يتركها تقوده وهي هائجة أو تقذفه عند كل منعطف. بل يأخذ بلجامها ويسلم قيادتها للعقل المستضيء بأنوار الوحي.


مما خرّب فطر الناس وضيّق عليهم معايشهم في هذا العصر تأطير السعادة ضمن كتالوجات محدّدة ترسخت في النفوس: مجموع علامات كبير وتخصص علمي في المدرسة، حفلة تخرّج مميّزة، مواكبة آخر صرعات الموضة، الدراسة في أعلى الجامعات، الحصول على وظيفة مربحة، الزواج من الفتاة المثالية أو الشاب المثالي من جميع النواحي، تحقيق الثراء المالي، السفر إلى الأماكن السياحية التي يسافر إليها الناس في المواسم، الحصول على الشهادات والتقديرات والاحتفاءات.. إلى آخر هذا الكتالوج الكبير الذي يراجعه الناس ليحكموا على سعادتهم أو سعادة غيرهم.
لم تعد السعادة فعلا ذاتيّا يتعلق بما يعْمُر قلب الإنسان من رضى وطمأنينة وأمن وسكينة، بل صارت أشبه ما يكون بالاستمارة التي تُعبئها حتى لو لم تحقق لك تلك العواطف الضرورية!
القرآن يحرق هذا الكتالوج المزيّف الكبير ويضعك على صفحة بيضاء نقية تتجلّى فيها أمامك مفاهيم: الفلاح، السكينة، الطمأنينة، البركة، الفرح الموصول بالله. وهي مفاهيم عامة تخاطب كل الفطر بالمشترك الإنساني الذي يجمعها، فالفلاح بالإيمان والعمل الصالح ليس أمرا خاصا بفرد دون فرد؛ لأنّ امتلاء قلب الإنسان بالإيمان يحقق له اتزانه ويطفئ قلقه الوجودي وينجيه في الآخرة برحمة الله، وكذلك قيامه بالعمل الصالح يضع الحسنات في ميزانه يوم القيامه.
أجمل ما يحققه القرآن – والسنّة النبوية كذلك – أنه يعترف بذاتية كل إنسان، فلا يفرض على الجميع أسلوبا واحدا لتحقيق السعادة، بل يقدّم هذه المفاهيم العامة كملاعب فسيحة للقلوب؛ فالبركة قد تتحقق ببيت بسيط وعمل عادي وقد تتحقق مع ثراء وأملاك، لكن المهم أن تتحقق ويستشعرها المرء، فلو تحقق الثراء ولم يستشعر البركة سيظل القلق والتوتر يقرضان قلبه!
والطمأنينة والأمن يأتيان بأهون الأسباب فيُنسيان الإنسان كل همّ ونصب وخوف، فالعبرة في زوال هذه المشاعر وليس في بناء أحزمة أمان مالية واجتماعية وعمرانية لا ترفع الخوف ولا تجلو الهم!
والسكينة متى حلّت بقلب المؤمن فهو لا يبالي أتحقّقت بالنموذج الذي يرسمه الكتالوج أو بأي نموذج آخر، فالعبرة بتحققها وليس بالشكل الذي يرضي الناس ولكنه قد يُبقي القلب مضطربا غير حاصل على اكتفائه منها.
وإذا كنت فرحًا بالله، بمِنّة أنه خلقك بعد أن لم تكن، وبأنه كرّمك وأعطاك ثم وعدك بالنعيم الخالد.. إذا كنت مستشعرا هذا الفرح طيلة حياتك فمن مثلك يا إنسان؟!
كم يجدر بالإنسان وهو يبحث عن فرحة قلبه أن يحرق كتالوجات السعادة البشرية ويُقبل على هدايات القرآن، فلا يستوي الذي يركن إلى تصورات الناس المتشاكسة والذي يركن إلى كلام الله.


كثيرا ما نُطلق وصف "تديَّنَ" على شخص بدأت تظهر عليه ظواهر معينة مثل: المواظبة على الصلاة وارتياد المساجد وإطلاق اللحية وارتداء الجلباب والبعد عن الأعراس المختلطة وحفظ القرآن وتعلّم التجويد وحضور مجالس المشايخ وغير ذلك من المظاهر.
لكنّ الواقع أنّ بعض صفات الإنسان وطباعه و"مصائبه" تظلّ في كثير من الأحيان في منطقة خاملة لا يطرُقها "التديّن" ولا يتفاعل معها لتغييرها؛ فالذي استمرأ الكذب طفلا ثم يافعًا ثمّ شابّا ستكون مهمّة التخلّص من الكذب مهمّة جوهرية ضمن "تديّنه"، ولن يكفّ عن الكذب بمجرّد إطلاق لحيته أو استعماله لعبارات "معاذ الله" و"أستغفر الله" و"والله وبالله وتالله".. ستكون المهمّة شاقّة ولكنها ضرورية.
والذي تشبّع بالعنصرية ووصم الناس والمفاضلة بينهم على أساس الجنسيات التي اخترعتها بريطانيا وفرنسا لن ينفعه حفظُ كتاب الله بجميع القراءات المتواترة إنْ لم يتشبّع بمعنى قوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
والذي نشأ على ممارسة "النصب" على الناس والتلاعب بهم وخداعهم كما هو حال بعض الباعة والتجّار وأهل الأسواق وغيرهم، فلن يتغيّر حاله بمجرّد اعتمار طاقية المتديّنين والإمساك بمسبحة وتعليق يافطة "لا تنس ذكر الله" وتشغيل المسجّل على تلاوة القرآن طوال اليوم! فحتى لو صدقتْ نيّته في ترك هذه الممارسات، سيكون عليه الدخول في "عبادة" شاقّة وطويلة للتخلّص من شيء يجري في دمه كالأكسجين!
ثمّة تديّن سهل يشبه ارتداء "الدشداشة" ويمكن خلعه بسرعة خلعها.. وثمّة تديّن صعب وحقيقي وصادق وجادّ، خالطتْ بشاشةُ الإيمان قلوبَ أصحابه وانعجنتْ به إراداتهم، فكافحوا أخلاق السوء التي تطبّعوا بها وصبروا على معالجتها ليتخلّصوا منها.
ولهذا كان أساس طلب العلم هو إصلاح القلوب والنيّات والبواطن، ليُبنى ظاهر العلم على أساس طيّب متين. ولكنّ التنافس في المظاهر هو آفة الإنسان التي جعلته – حتى في الدين – يعجل إليها ويقدّم البارز السهل على الغائر الصعب.

Показано 20 последних публикаций.

2 289

подписчиков
Статистика канала