في مِثلِ هَذا اليَوم، ولكِن قَبل سِتّ سَنوات، بَدأ عُدوان 2014 على غَزَّة، هذه البُقعة الصَّغيرَة التي لَم تَركَع لأَعتَى قوى الأَرض مُجتَمِعَة، فَمعها قُوَّة السَّماء.
كُنَّا في هذهِ الأرض الصَّغيرَة نَموت، كُلَّ يوم، كُلَّ سَاعة، وَبَينَما نَحنُ نرتَقي إلى العليَاء، غَير ٱبِهينَ للدُّنيا، كَانَت الدُّنيا تُمارِسُ حياتَها بِشكلٍ طَبيعي، كَوكبُ الأرضِ يُتابعُ تصفيات كأس العَالَم لكُرَة القَدَم، تَقفِزُ الجماهيرُ تُعلِنُ انتصَارها، في ذاتِ اللَّحظة التي يصرُخ فيها الجُمهور، كانت جُمُوعٌ بَشريَّة اختلط بُكاءَها وعويلها بِدموعِها وَدِمائها، وتصرخُ أمٌّ: أينَ أطفالي، أطفالي تحتَ الأنقاض، تَتَوسَّلُ رجالَ الأرضِ الحقيقيين، وهُم يقومونَ فعليًا بواجبِهِم دونَ طلب منها.
أعلُمُ حِينَ رأيتُ دموعَ ابن السَّادِسَة تَحرِقُ عَينَيه لِفَقدِه عائلته، كان هُناك طِفلٌ ٱخرَ في مدينةٍ ما، تملأُ عيونَه دموعُ الفرحِ بلُعبَته الجَدِيدَة من والده.
مُتأكد تمامًا، في تلكَ اللَّحظات التي كُنتُ أجلسُ خائفًا مِن صاروخٍ لا يطلبُ الإذن، أن يتركني ويخطف عائلتي منِّي، كانت فتاة لا أعرفُ اسم دَولتها، بِنَفسِ عُمري تَطِيرُ روحُها سَعادةً وهِيَ ترتَدي ثيابًا جَدِيدَة لِتَناولِ وَجبةَ الغداء في مطعمٍ فاخرٍ مع عائلتها.
أتذكَّر عِندَما جاءَ أحد الأصدقاء، رحِمَهُ اللّٰه، طرقَ البابَ بِهَلَع، فَتحتُ لهُ وذَهبْنا لِسَطحِ المَنزِل نَجلِسُ هُنَاك، كَانَ قد نَجا بِفضلِ اللّٰهِ بأُعجُوبَة من قَصفٍ قَريب مِنهُ لسَيَّارَةٍ في الطَّريق، كَان يَصعدُ دَرَجَ المنزل وقَلبُه عَلى الأَرض، الٱن وأنا أكتُب، على يقينٍ بأنَّ أحَدَ قَاطِني كوكَب الأرض عادَ مِن عَملِهِ باكِرًا، وصعد درج منزله متفائلًا جدًا، تَغمرُه فرحَةٌ عَارِمة، ونَشاط؛ لأنَّهُ عادَ قبلَ الوقت، وسَيغتَنِم الوَقت ويجلِسُ مع زوجَته، ويَرتَاح.
في أحَدِ أيَّام العُدوان الإسرائيلي الغاشِم على غزة، وجدتُ مَجموعَة منَ الناسِ مُختَلِفة الأعمَار، يقِفُونَ في منطِقَةٍ ما، ذهبتُ أرى ما الأمر، فَكان بيتٌ مُهَدَّد بالقصف، وقفت، دقائقَ مَعدودَة، كانَ الغُبَارُ والأترِبة تعجُّ بِالمَكان، تَطَايَرت شَظَايَا وحِجَارة، سَقطَ زُجَاج الكثير منَ البُيوت، سيَّارات الإسعَاف، الدِّفاع المَدني، هَذِه الطَّواقم التي أعطَت للرُّجولَة مَعنى، وللمِهنَة شَرَف.
هل تعلَم أنَّ في تلكَ اللحظة التي سُوِّيَ بها المنزل بالأرض، كانَت خارجَ بُقعَتِنا الكَثير مِنَ البُيوت تُبنى، والبنايات تَرتفِع!
جاءَ المَسَاء، ليته ما جَاء، لم نَنَم تِلكَ الليلة، كانَت الشِّجاعِيَّة تُقصَفُ بعشوائية وجنونٍ مُكَثَّفَين، كانَ منزِلنا يَهتَزُّ مع كُلِّ إصابَةِ بِنَاية فِيها، هَل كان ذلِكَ تَضامُنًا مع الشجاعية، أم حُزنًا عليها؟
الاحتلالُ الإسرائيليّ يقصفُ البيوتَ فَوقَ رُؤُوسِ سَاكِنِيهَا، لا يُحذِّرهُم، بَعضُ المنازلِ بِهَا أَكثَر مِن عِشرينَ شَخص، مِنهُم الشَّيخُ والطِّفل والمَرأَة والشَّاب، لا يَأبَه للأَطفالِ في الشَّارعِ فيغتالُ طفولَتَهم، يَقصِفُ المسَاجِد، يَخطِفُ الأرواَح، يُقيمُ المجازِر ويُجيدُ فَنَّ التَّهجِير، هَذا الاحتلالُ يقتلُ الأطفالَ في بُطونِ أُمَّهاتِهم، يقتلُ الحوامِل.
عن ماذا أقول، ومن أين أبدأ؟!
خُذ معلومةً مجَّانِيَّة، يَخرجُ الاحتلالُ بِطَائراتِه، لِيَقتلَ كُلَّ مَعنى للحَياة في غزة، يُريدُ أَن يجعَلَها أرضًا قاحلة، لا شَجَر ولا بَشَر، ثُم يَذهبُ أمامَ التلفاز يدَّعي الإنسانية!
الإنسانيَّة عِندَهُم عِبَارة عن دراكُولَا يعيشُ على دماءِ الفلسطيني، لكِن "عبثًا يحاوِل لا فَناءَ لثائِر".
هذا العَالَمُ يُحَاوِلُ أن يَسحَقَنا، ويَمضِي، يظُنُّنَا كَغَيرِنَا، لكنَّنا رغم قِلًتِنا كُثر، ورغم ضَعفِنا أقوِيَاء، ونقِفُ غَصَّةً في حَلقِ كُلِّ مَن ينكّد عيشَنَا، وَيُعَكِّر صَفوَنَا، ونَظلُّ واقفينَ لا نَنحَنِي، وَنَنتَصِر لأَنَّنا أحرار ولدينا كرَامة.
يظُنُّنا الناسُ أحيَاء، لكِنَّنا في الحَقيقَةِ كُلَّ يومٍ نموت، شوقًا للراحلين.
- أحد الناجين مِن ثلاثةِ حروب، والعَديد من الاجتِيَاحات، والتصعيداتِ الحربِيَّة.
مَحمُود عبدالله
8 يوليو 2020
7:08م
كُنَّا في هذهِ الأرض الصَّغيرَة نَموت، كُلَّ يوم، كُلَّ سَاعة، وَبَينَما نَحنُ نرتَقي إلى العليَاء، غَير ٱبِهينَ للدُّنيا، كَانَت الدُّنيا تُمارِسُ حياتَها بِشكلٍ طَبيعي، كَوكبُ الأرضِ يُتابعُ تصفيات كأس العَالَم لكُرَة القَدَم، تَقفِزُ الجماهيرُ تُعلِنُ انتصَارها، في ذاتِ اللَّحظة التي يصرُخ فيها الجُمهور، كانت جُمُوعٌ بَشريَّة اختلط بُكاءَها وعويلها بِدموعِها وَدِمائها، وتصرخُ أمٌّ: أينَ أطفالي، أطفالي تحتَ الأنقاض، تَتَوسَّلُ رجالَ الأرضِ الحقيقيين، وهُم يقومونَ فعليًا بواجبِهِم دونَ طلب منها.
أعلُمُ حِينَ رأيتُ دموعَ ابن السَّادِسَة تَحرِقُ عَينَيه لِفَقدِه عائلته، كان هُناك طِفلٌ ٱخرَ في مدينةٍ ما، تملأُ عيونَه دموعُ الفرحِ بلُعبَته الجَدِيدَة من والده.
مُتأكد تمامًا، في تلكَ اللَّحظات التي كُنتُ أجلسُ خائفًا مِن صاروخٍ لا يطلبُ الإذن، أن يتركني ويخطف عائلتي منِّي، كانت فتاة لا أعرفُ اسم دَولتها، بِنَفسِ عُمري تَطِيرُ روحُها سَعادةً وهِيَ ترتَدي ثيابًا جَدِيدَة لِتَناولِ وَجبةَ الغداء في مطعمٍ فاخرٍ مع عائلتها.
أتذكَّر عِندَما جاءَ أحد الأصدقاء، رحِمَهُ اللّٰه، طرقَ البابَ بِهَلَع، فَتحتُ لهُ وذَهبْنا لِسَطحِ المَنزِل نَجلِسُ هُنَاك، كَانَ قد نَجا بِفضلِ اللّٰهِ بأُعجُوبَة من قَصفٍ قَريب مِنهُ لسَيَّارَةٍ في الطَّريق، كَان يَصعدُ دَرَجَ المنزل وقَلبُه عَلى الأَرض، الٱن وأنا أكتُب، على يقينٍ بأنَّ أحَدَ قَاطِني كوكَب الأرض عادَ مِن عَملِهِ باكِرًا، وصعد درج منزله متفائلًا جدًا، تَغمرُه فرحَةٌ عَارِمة، ونَشاط؛ لأنَّهُ عادَ قبلَ الوقت، وسَيغتَنِم الوَقت ويجلِسُ مع زوجَته، ويَرتَاح.
في أحَدِ أيَّام العُدوان الإسرائيلي الغاشِم على غزة، وجدتُ مَجموعَة منَ الناسِ مُختَلِفة الأعمَار، يقِفُونَ في منطِقَةٍ ما، ذهبتُ أرى ما الأمر، فَكان بيتٌ مُهَدَّد بالقصف، وقفت، دقائقَ مَعدودَة، كانَ الغُبَارُ والأترِبة تعجُّ بِالمَكان، تَطَايَرت شَظَايَا وحِجَارة، سَقطَ زُجَاج الكثير منَ البُيوت، سيَّارات الإسعَاف، الدِّفاع المَدني، هَذِه الطَّواقم التي أعطَت للرُّجولَة مَعنى، وللمِهنَة شَرَف.
هل تعلَم أنَّ في تلكَ اللحظة التي سُوِّيَ بها المنزل بالأرض، كانَت خارجَ بُقعَتِنا الكَثير مِنَ البُيوت تُبنى، والبنايات تَرتفِع!
جاءَ المَسَاء، ليته ما جَاء، لم نَنَم تِلكَ الليلة، كانَت الشِّجاعِيَّة تُقصَفُ بعشوائية وجنونٍ مُكَثَّفَين، كانَ منزِلنا يَهتَزُّ مع كُلِّ إصابَةِ بِنَاية فِيها، هَل كان ذلِكَ تَضامُنًا مع الشجاعية، أم حُزنًا عليها؟
الاحتلالُ الإسرائيليّ يقصفُ البيوتَ فَوقَ رُؤُوسِ سَاكِنِيهَا، لا يُحذِّرهُم، بَعضُ المنازلِ بِهَا أَكثَر مِن عِشرينَ شَخص، مِنهُم الشَّيخُ والطِّفل والمَرأَة والشَّاب، لا يَأبَه للأَطفالِ في الشَّارعِ فيغتالُ طفولَتَهم، يَقصِفُ المسَاجِد، يَخطِفُ الأرواَح، يُقيمُ المجازِر ويُجيدُ فَنَّ التَّهجِير، هَذا الاحتلالُ يقتلُ الأطفالَ في بُطونِ أُمَّهاتِهم، يقتلُ الحوامِل.
عن ماذا أقول، ومن أين أبدأ؟!
خُذ معلومةً مجَّانِيَّة، يَخرجُ الاحتلالُ بِطَائراتِه، لِيَقتلَ كُلَّ مَعنى للحَياة في غزة، يُريدُ أَن يجعَلَها أرضًا قاحلة، لا شَجَر ولا بَشَر، ثُم يَذهبُ أمامَ التلفاز يدَّعي الإنسانية!
الإنسانيَّة عِندَهُم عِبَارة عن دراكُولَا يعيشُ على دماءِ الفلسطيني، لكِن "عبثًا يحاوِل لا فَناءَ لثائِر".
هذا العَالَمُ يُحَاوِلُ أن يَسحَقَنا، ويَمضِي، يظُنُّنَا كَغَيرِنَا، لكنَّنا رغم قِلًتِنا كُثر، ورغم ضَعفِنا أقوِيَاء، ونقِفُ غَصَّةً في حَلقِ كُلِّ مَن ينكّد عيشَنَا، وَيُعَكِّر صَفوَنَا، ونَظلُّ واقفينَ لا نَنحَنِي، وَنَنتَصِر لأَنَّنا أحرار ولدينا كرَامة.
يظُنُّنا الناسُ أحيَاء، لكِنَّنا في الحَقيقَةِ كُلَّ يومٍ نموت، شوقًا للراحلين.
- أحد الناجين مِن ثلاثةِ حروب، والعَديد من الاجتِيَاحات، والتصعيداتِ الحربِيَّة.
مَحمُود عبدالله
8 يوليو 2020
7:08م