من ذاكرة المصانع
.
كنت دائماً أنتمي للعنصر (المشغّل) في المصنع، للرجال الذين يقضون الليالي الطوال وهم يراقبون درجة الحرارة وضغط الأنابيب، للمنتبهين لكل الأرقام، لليقظين لاحتمال الكارثة.
الوقوف في غرفة التحكم بالمصنع، كالوقوف على فوهة بركان، بانتظار لحظة انفجار مفاجئة، فمهما كانت معدلات الأداء منضبطة، يبقى معدل الأدرينالين في الدم في أعلى مستوياته، لذلك لا تجد متقاعد من المصنع لا يعاني من مشكلة ضغط الدم، أو من اختلال في السكر من كثرة تعاطي الشاي الثقيل لليالي الساهرة، والكثير من الأمراض الأخرى ومنها الإدمان على الشِعر التهكمي والإيقاع الصاخب، ومما أذكر أن (مشغّلاً) فقيراً كان يكتب خلف سيارته (الكوريلا) الخربة بيتاً أظنه من أجمل ما قيل في هذا الباب: ( يا موتري وش عاد لو قيل سكراب..تكبر مع الأيام وتصير لكزس)، وأذكر أني حين كنت أقطع المسافات في صباحات الغبار قلت: ( لى عجت الدنيا على وجه حظّك.. ما ينفعك يا خوك تمسيح فيري).. وهذا النوع من الأدب لن يفهمه إلا هؤلاء، أو من جرّب مثل هذا النوع من العيش على فوّهة الوقت، وانتظار الفاجعة، لذلك يحضر قصيراً مقتضباً وتهكميّاً لا يطمح لأي نوع من أنواع الإبداع الفني.
والقسم الثاني من شعب المصنع هم أهل الصيانة، أو (حكماء ما بعد المصيبة)، هؤلاء لا أميل إليهم كثيراً، إذ يجلسون في مكاتبهم ولا يتحركون إلا بعد العطل أو الإيقاف الروتيني للمعدات، يتداولون مقاطع (الواتساب) طول اليوم ويتأففون من أي طلب مساعدة من المشغلين، دوامهم لا يتجاوز الـ٨ ساعات إلا نادراً، أقصد في الصيانة الدورية، حيث يتم إيقاف المصنع لمدة ٢٨ يوم لتغيير وإصلاح كل ما يطلبه المهندسون.
.
.
لماذا أكتب كل هذا؟! شخصياً لا أدري، هل هو الحنين إلى الماضي أو التعب من الحاضر؟!، لا أدري، ولكني متأكد أن العيش كشاعر داخل مدينة حديثة أمر متعب ومرهق ... بل ومقرف في أغلب الوقت
.
.
مساء الخير
🚶🏻
.
كنت دائماً أنتمي للعنصر (المشغّل) في المصنع، للرجال الذين يقضون الليالي الطوال وهم يراقبون درجة الحرارة وضغط الأنابيب، للمنتبهين لكل الأرقام، لليقظين لاحتمال الكارثة.
الوقوف في غرفة التحكم بالمصنع، كالوقوف على فوهة بركان، بانتظار لحظة انفجار مفاجئة، فمهما كانت معدلات الأداء منضبطة، يبقى معدل الأدرينالين في الدم في أعلى مستوياته، لذلك لا تجد متقاعد من المصنع لا يعاني من مشكلة ضغط الدم، أو من اختلال في السكر من كثرة تعاطي الشاي الثقيل لليالي الساهرة، والكثير من الأمراض الأخرى ومنها الإدمان على الشِعر التهكمي والإيقاع الصاخب، ومما أذكر أن (مشغّلاً) فقيراً كان يكتب خلف سيارته (الكوريلا) الخربة بيتاً أظنه من أجمل ما قيل في هذا الباب: ( يا موتري وش عاد لو قيل سكراب..تكبر مع الأيام وتصير لكزس)، وأذكر أني حين كنت أقطع المسافات في صباحات الغبار قلت: ( لى عجت الدنيا على وجه حظّك.. ما ينفعك يا خوك تمسيح فيري).. وهذا النوع من الأدب لن يفهمه إلا هؤلاء، أو من جرّب مثل هذا النوع من العيش على فوّهة الوقت، وانتظار الفاجعة، لذلك يحضر قصيراً مقتضباً وتهكميّاً لا يطمح لأي نوع من أنواع الإبداع الفني.
والقسم الثاني من شعب المصنع هم أهل الصيانة، أو (حكماء ما بعد المصيبة)، هؤلاء لا أميل إليهم كثيراً، إذ يجلسون في مكاتبهم ولا يتحركون إلا بعد العطل أو الإيقاف الروتيني للمعدات، يتداولون مقاطع (الواتساب) طول اليوم ويتأففون من أي طلب مساعدة من المشغلين، دوامهم لا يتجاوز الـ٨ ساعات إلا نادراً، أقصد في الصيانة الدورية، حيث يتم إيقاف المصنع لمدة ٢٨ يوم لتغيير وإصلاح كل ما يطلبه المهندسون.
.
.
لماذا أكتب كل هذا؟! شخصياً لا أدري، هل هو الحنين إلى الماضي أو التعب من الحاضر؟!، لا أدري، ولكني متأكد أن العيش كشاعر داخل مدينة حديثة أمر متعب ومرهق ... بل ومقرف في أغلب الوقت
.
.
مساء الخير
🚶🏻