والجود عشر مراتب .
إحداها : الجود بالنفس . وهو أعلى مراتبه ، كما قال الشاعر :
يجود بالنفس ، إذ ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
الثانية : الجود بالرئاسة . وهو ثاني مراتب الجود . فيحمل الجواد جوده على امتهان رئاسته ، والجود بها . والإيثار في قضاء حاجات الملتمس .
الثالثة : الجود براحته ورفاهيته ، وإجمام نفسه . فيجود بها نصبا وكدا في مصلحة غيره . ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامره ، كما قيل :
متيم بالندى ، لو قال سائله : هب لي جميع كرى عينيك ، لم ينم
الرابعة : الجود بالعلم وبذله . وهو من أعلى مراتب الجود . والجود به أفضل من الجود بالمال . لأن العلم أشرف من المال .
والناس في الجود به على مراتب متفاوتة . وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ : أن لا ينفع به بخيلا أبدا .
ومن الجود به : أن تبذله لمن لم يسألك عنه ، بل تطرحه عليه طرحا .
ومن الجود بالعلم : أن السائل إذا سألك عن مسألة : استقصيت له جوابها شافيا ، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة ، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا : نعم ، أو : لا . مقتصرا عليها .
ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في ذلك أمرا عجيبا :
كان إذا سئل عن مسألة حكمية ، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة ، إذا قدر عليه ، ومأخذ الخلاف ، وترجيح القول الراجح وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته فيكون فرحه بتلك المتعلقات ، واللوازم : أعظم من فرحه بمسألته.
و من فتاواه بين الناس فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك .
فمن جود الإنسان بالعلم : أنه لا يقتصر على مسألة السائل . بل يذكر له نظيرها ومتعلقها ومأخذها ، بحيث يشفيه ويكفيه .
وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المتوضي بماء البحر ؟ فقال هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته فأجابهم عن سؤالهم . وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه .
وكانوا إذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته . كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر ؟ فقال : أينقص الرطب إذا جف ؟ قالوا : نعم . قال : فلا إذن ولم يكن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم نقصان الرطب بجفافه ، ولكن نبههم على علة الحكم ، وهذا كثير جدا في أجوبته صلى الله عليه وسلم . مثل قوله : إن بعت من أخيك ثمرا فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ وفي لفظ : أرأيت إن منع الله الثمرة : بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ ، فصرح بالعلة التي يحرم لأجلها إلزامه بالثمن ، وهي منع الله الثمرة الذي ليس للمشتري فيها صنع .
وكان خصومه - يعني شيخ الإسلام ابن تيمية - يعيبونه بذلك ، ويقولون : سأله السائل عن طريق مصر - مثلا - فيذكر له معها طريق مكة ، والمدينة ، وخراسان ، والعراق ، والهند . وأي حاجة بالسائل إلى ذلك ؟ .
ولعمر الله ليس ذلك بعيب ، وإنما العيب : الجهل والكبر . وهذا موضع المثل المشهور :
لقبوه بحامض وهو حلو مثل من لم يصل إلى العنقود
الخامسة : الجود بالنفع بالجاه ، كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه . وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد ، كما أن التعليم وبذل العلم زكاته .
السادسة : الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه . كما قال صلى الله عليه وسلم : يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ، يعدل بين اثنين : صدقة . ويعين الرجل في دابته ، فيحمله عليها ، أو يرفع له عليها متاعه : صدقة . والكلمة الطيبة : صدقة ، وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة : صدقة ويميط الأذى عن الطريق : صدقة متفق عليه .
السابعة : الجود بالعرض ، كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم . كان إذا أصبح قال : اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس . وقد تصدقت عليهم بعرضي ، فمن شتمني ، أو قذفني : فهو في حل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم ؟ .
وفي هذا الجود من سلامة الصدر ، وراحة القلب ، والتخلص من معاداة الخلق ما فيه .
الثامنة : الجود بالصبر ، والاحتمال ، والإغضاء . وهذه مرتبة شريفة من مراتبه . وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال ، وأعز له وأنصر ، وأملك لنفسه ، وأشرف لها . ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار .
فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود . فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة . وهذا جود الفتوة . قال تعالى " والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له " وفي هذا الجود قال تعالى" وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين " فذكر المقامات الثلاثة في هذه الآية : مقام العدل ، وأذن فيه . ومقام الفضل ، وندب إليه . ومقام الظلم ، وحرمه .
التاسعة : الجود بالخلق والبشر والبسطة . وهو فوق الجود بالصبر ، والاحتمال والعفو . وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم . وهو أثقل ما يوضع في الميزان . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تحقرن من المعروف شيئ
إحداها : الجود بالنفس . وهو أعلى مراتبه ، كما قال الشاعر :
يجود بالنفس ، إذ ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
الثانية : الجود بالرئاسة . وهو ثاني مراتب الجود . فيحمل الجواد جوده على امتهان رئاسته ، والجود بها . والإيثار في قضاء حاجات الملتمس .
الثالثة : الجود براحته ورفاهيته ، وإجمام نفسه . فيجود بها نصبا وكدا في مصلحة غيره . ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامره ، كما قيل :
متيم بالندى ، لو قال سائله : هب لي جميع كرى عينيك ، لم ينم
الرابعة : الجود بالعلم وبذله . وهو من أعلى مراتب الجود . والجود به أفضل من الجود بالمال . لأن العلم أشرف من المال .
والناس في الجود به على مراتب متفاوتة . وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ : أن لا ينفع به بخيلا أبدا .
ومن الجود به : أن تبذله لمن لم يسألك عنه ، بل تطرحه عليه طرحا .
ومن الجود بالعلم : أن السائل إذا سألك عن مسألة : استقصيت له جوابها شافيا ، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة ، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا : نعم ، أو : لا . مقتصرا عليها .
ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في ذلك أمرا عجيبا :
كان إذا سئل عن مسألة حكمية ، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة ، إذا قدر عليه ، ومأخذ الخلاف ، وترجيح القول الراجح وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته فيكون فرحه بتلك المتعلقات ، واللوازم : أعظم من فرحه بمسألته.
و من فتاواه بين الناس فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك .
فمن جود الإنسان بالعلم : أنه لا يقتصر على مسألة السائل . بل يذكر له نظيرها ومتعلقها ومأخذها ، بحيث يشفيه ويكفيه .
وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المتوضي بماء البحر ؟ فقال هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته فأجابهم عن سؤالهم . وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه .
وكانوا إذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته . كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر ؟ فقال : أينقص الرطب إذا جف ؟ قالوا : نعم . قال : فلا إذن ولم يكن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم نقصان الرطب بجفافه ، ولكن نبههم على علة الحكم ، وهذا كثير جدا في أجوبته صلى الله عليه وسلم . مثل قوله : إن بعت من أخيك ثمرا فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ وفي لفظ : أرأيت إن منع الله الثمرة : بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ ، فصرح بالعلة التي يحرم لأجلها إلزامه بالثمن ، وهي منع الله الثمرة الذي ليس للمشتري فيها صنع .
وكان خصومه - يعني شيخ الإسلام ابن تيمية - يعيبونه بذلك ، ويقولون : سأله السائل عن طريق مصر - مثلا - فيذكر له معها طريق مكة ، والمدينة ، وخراسان ، والعراق ، والهند . وأي حاجة بالسائل إلى ذلك ؟ .
ولعمر الله ليس ذلك بعيب ، وإنما العيب : الجهل والكبر . وهذا موضع المثل المشهور :
لقبوه بحامض وهو حلو مثل من لم يصل إلى العنقود
الخامسة : الجود بالنفع بالجاه ، كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه . وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد ، كما أن التعليم وبذل العلم زكاته .
السادسة : الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه . كما قال صلى الله عليه وسلم : يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ، يعدل بين اثنين : صدقة . ويعين الرجل في دابته ، فيحمله عليها ، أو يرفع له عليها متاعه : صدقة . والكلمة الطيبة : صدقة ، وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة : صدقة ويميط الأذى عن الطريق : صدقة متفق عليه .
السابعة : الجود بالعرض ، كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم . كان إذا أصبح قال : اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس . وقد تصدقت عليهم بعرضي ، فمن شتمني ، أو قذفني : فهو في حل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم ؟ .
وفي هذا الجود من سلامة الصدر ، وراحة القلب ، والتخلص من معاداة الخلق ما فيه .
الثامنة : الجود بالصبر ، والاحتمال ، والإغضاء . وهذه مرتبة شريفة من مراتبه . وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال ، وأعز له وأنصر ، وأملك لنفسه ، وأشرف لها . ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار .
فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود . فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة . وهذا جود الفتوة . قال تعالى " والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له " وفي هذا الجود قال تعالى" وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين " فذكر المقامات الثلاثة في هذه الآية : مقام العدل ، وأذن فيه . ومقام الفضل ، وندب إليه . ومقام الظلم ، وحرمه .
التاسعة : الجود بالخلق والبشر والبسطة . وهو فوق الجود بالصبر ، والاحتمال والعفو . وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم . وهو أثقل ما يوضع في الميزان . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تحقرن من المعروف شيئ