الحمدُ للهِ، وبعدُ:
روى الإمامُ مُسلِمٌ ( ١١٦٤ ) عن أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: "مَن صامَ رمضانَ ثم أتْبَعَهُ سِتًّا من شوَّالٍ كان كصِيامِ الدَّهرِ".
وقد جاء ذلك مُفسَّرًا من حديثِ ثوبانَ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: "مَن صامَ رمضانَ فشهرٌ بعشرةِ أشهُرٍ، وصِيامُ سِتَّةِ أيَّامٍ بعدَ الفِطرِ، فذلك تمامُ صِيامِ السَّنَةِ".
وفي روايةٍ: "جعل اللهُ الحسنةَ بعشرٍ، فشهرٌ بعشرةِ أشهُرٍ، وستةُ أيَّامٍ بعدَ الفطرِ تمامُ السَّنَةِ".
رواه أحمدُ ( ٢٢٤١٢ )، والنَّسائيُّ في الكُبرى ( ٢٨٧٣ و٢٨٧٤ )، وابنُ ماجه ( ١٧١٥ )، وابنُ خُزَيمةَ ( ٢١١٥ )، وابنُ حِبَّانَ ( ٣٦٣٥ )، والطَّبرانيُّ في الكبيرِ ( ٢ / ١٠٢ برقم ١٤٥١ ) وفي الشَّامِيِّينَ ( ٤٨٥ و٨٩٨ و٩٠٣ )، والبيهقيُّ في الكُبرى ( ٨٥٠٧ ) وفي شُعَبِ الإيمانِ ( ٣٤٦١ ).
وإسنادُه صحيحٌ.
وصحَّحَهُ الإمامُ أحمدُ، وأبو حاتمٍ الرَّازيُّ، وابنُ خُزَيمةَ، وابنُ حِبَّانَ، والألبانيُّ، وغيرُهم.
وفي البابِ: عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، وأبي هُرَيرةَ، وعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، والبراءِ بنِ عازبٍ، وعائشةَ.
قال الإمامُ ابنُ رَجَبٍ الحنبليُّ: "فمن كان عليه قضاءٌ من شهرِ رمضانَ؛ فليبدأْ بقضائِه في شوَّالٍ؛ فإنَّه أسرعُ لبراءةِ ذِمَّتِه، وهو أولى من التَّطوُّعِ بصِيامِ سِتٍّ من شوَّالِ؛ فإنَّ العُلَماءَ اختَلَفُوا فيمن عليه صيامٌ مفروضٌ هل يجوزُ أن يتطوَّعَ قبله أم لا؟ وعلى قولِ مَن جوَّزَ التَّطوُّعَ قبلَ القضاءِ؛ فلا يحصُلُ مقصودُ صيامِ سِتَّةِ أيَّامِ من شوَّالٍ إلَّا لمن أكملَ صيامَ رمضانَ ثم أتْبَعَهُ بسِتٍّ من شوَّالٍ، فمن كان عليه قضاءٌ من رمضانَ ثم بدأَ بصِيامِ ستٍّ من شوَّالٍ تطوُّعًا؛ لم يحصُلْ له ثوابُ مَن صامَ رمضانَ ثم أتبَعَهُ بسِتٍّ من شوَّالٍ؛ حيثُ لم يُكمِلْ عدَّةَ رمضانَ، كما لا يحصُلُ لمن أفطرَ رمضانَ لعُذرٍ بصِيامِ سِتَّةِ أيَّامٍ من شوَّالٍ أجرُ صيامِ السَّنَةِ بغيرِ إشكالٍ.
ومَن بدأَ بالقضاءِ في شوَّالٍ، ثم أراد أن يُتْبِعَ ذلك بصِيامِ سِتٍّ من شوَّالٍ بعد تكملةِ قضاءِ رمضانَ؛ كان حَسَنًا؛ لأنَّه يصيرُ حينئذٍ قد صام رمضانَ وأتْبَعَهُ بسِتٍّ من شوَّالٍ.
ولا يحصُلُ له فضلُ صِيامِ ستٍّ من شوَّالٍ بصومِ قضاءِ رمضانَ؛ لأنَّ صِيامَ السِّتِّ من شوَّال إنَّما تكونُ بعدَ إكمالِ عِدَّةِ رمضانَ".
لطائفُ المعارفِ ( ص٤٩٧ - ٤٩٨ ).
وهذه مسألةٌ وفائدةٌ نفيسةٌ..
وقال ابنُ رَجَبٍ: "وفي مُعاوَدةِ الصِّيامِ بعدَ رمضانَ فوائدُ عديدةٌ:
منها: أنَّ صِيامَ سِتَّةِ أيَّامٍ من شوَّالٍ بعد رمضانَ يُستَكمَلُ بها أجرُ صِيامِ الدَّهرِ كُلِّه.
ومنها: أنَّ صِيامَ شوَّالٍ وشعبانَ كصلاةِ السُّنَنِ الرَّواتبِ قبلَ الصَّلاةِ المفروضةِ وبعدَها، فيكمُلُ بذلك ما حَصَلَ في الفرضِ من خَلَلٍ ونقصٍ؛ فإنَّ الفرائضَ تُكمَلُ بالنَّوافلِ يومَ القِيامةِ كما ورد ذلك عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من وُجوهٍ مُتَعدِّدةٍ.
وأكثرُ النَّاسِ في صيامِه للفرضِ نقصٌ وخللٌ، فيحتاجُ إلى ما يَجبُرُه ويُكمِلُه من الأعمالِ.
ومنها: أنَّ مُعاوَدةَ الصِّيامِ بعدَ صيامِ رمضانَ علامةٌ على قَبولِ صومِ رمضانَ؛ فإنَّ اللهَ إذا تقبَّلَ عَمَلَ عبدٍ وفَّقَهُ لعَمَلٍ صالحٍ بعده، كما قال بعضُهم: ثوابُ الحَسَنةِ الحَسَنةُ بعدَها، فمن عَمِلَ حَسَنةً ثم أتْبَعَها بحَسَنةٍ؛ كان ذلك علامةً على قَبولِ الحَسَنةِ الأُولى، كما أنَّ مَن عَمِلَ حسنةً ثم أتْبَعَها بسيِّئةٍ؛ كان ذلك علامةَ ردِّ الحَسَنةِ وعَدَمِ قَبولِها.
ومنها: أنَّ صيامَ رمضانَ يُوجِبُ مغفرةَ ما تقدَّمَ من الذُّنوبِ، وأنَّ الصَّائمينَ لرمضانَ يُوفَّوْنَ أُجورَهم في يومِ الفِطرِ، وهو يومُ الجوائزِ، فيكونُ مُعاوَدةُ الصِّيامِ بعدَ الفِطرِ شُكرًا لهذه النِّعمةِ، فلا نِعمةَ أعظمُ من مغفرةِ الذُّنوبِ.
وقد أمر اللهُ سُبحانه وتعالى عِبادَهُ بشُكرِ نِعمةِ صيامِ رمضانَ بإظهارِ ذكرِه وغيرِ ذلك من أنواعِ شُكرِه، فقال تعالى: ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).
فمن جُملةِ شُكرِ العبدِ لربِّه على توفيقِه لصيامِ رمضانَ وإعانتِه عليه ومغفرةِ ذُنوبِه أن يصومَ له شُكرًا عقيبَ ذلك.
ومنها: أنَّ الأعمالَ التي كان العبدُ يتقرَّبُ بها إلى ربِّه في شهرِ رمضانَ لا تنقطعُ بانقضاءِ رمضانَ، بل هي باقيةٌ بعد انقضائِه ما دام العبدُ حيًّا.
وقيل لبِشْرٍ: إنَّ قومًا يتعبَّدونَ ويجتهدونَ في رمضانَ، فقال: بِئسَ القومُ قومٌ لا يعرفونَ للهِ حقًّا إلَّا في شهرِ رمضانَ، إنَّ الصَّالِحَ الذي يتعبَّدُ ويجتهدُ السَّنَةَ كلَّها.
وسُئِلَ الشِّبْليُّ: أيُّما أفضلُ؛ رَجّبٌ أم شعبانُ؟
فقال: كن ربَّانيًّا ولا تكن شعبانيًّا.
لطائفُ المعارفِ ( ص٤٩٣ - ص٤٩٧ ) بتصرُّفٍ.
واللهُ أعلمُ..