منذ سنوات ..
قبل أن يوجد الفيسبوك ...
كانت هناك كائنات ليست حكيمة ولا تكتب حكَمًا ..
وليست عبقريّة ولا مختلفة ..
ولا تبحث عن سرّ النّجاح ووصفته السّحريّة الخوارقيّة ..
ولا تبحث كيف تخسر وزنها في أسبوع من غير امتناع عن الأكل، ولا عن مقال يحتوي على سرّ إقناع الآخرين وإكسير الثّقة بالنّفس ..
كانت هناك ..
منذ سنوات طوال ..
كائنات لا تقتبس من روايات وكتب لم تقرأها، ولا تقتبس اقتباسات جاهزة حاضرة كالوجبات السّريعة هي كلّ ما رأت عينها ممّا كتب الكاتب الّذي تضع اسمه تحت الاقتباس ..
كائنات لم يولد بعد فيها الكاتب الفذّ العظيم الألمعيّ الجبل العلم: "منقول"، ولا تعرفه.
كائنات لا تكتب روايات وتعترف بأنّها لا تقدر على ذلك ولا تملك موهبة ..
سنوات طوال ..
منذ كانت هناك ..
كائنات تعرف أنّها لا تعرف السّياسة .. وتفهم أنّها لا تفهم الفقه .. وتعلم أنّها لا تعلم حين تكون لا تعلم من غير أن تتظاهر انّها تعلم ..
ولم يكن هناك رغبة حارقة تقهرها لتعرض عقلها على طبق للنّاس فتكشف عورته للعقلاء على قارعة طريق اسفلتيّ أزرق تملأه الوجوه ..
هناك سنوات طوال كانت ..
منذ وجدت كائنات تأكل ما لا يعلمه النّاس ..
تسافر بعيدا عن أعين النّاس ..
تذهب للحجّ والعمرة فلا تكتب لافتات ..
تتشاجر مع أزواجها فلا تقتبس رسائل الأحزان للرّافعي ..
تعرف الفرق بين فم الإنسان ومنقار البطّة ..
وتحلم بتحرير الأقصى، لكنّه لا يشتاق لها ..
منذ سنوات ..
قبل أن يوجد الفيسبوك ..
كانت هناك كائنات لها صديق واحد أو لا صديق أصلا ..
وكان هناك مغامرون لهم صديقان أو ثلاثة ..
لم يكن يخطر ببال أحد قصّة أسطوريّة عن خمسة آلاف صديق ..
ولا خرافة صديق لا نعرف عنه شيئا ولا يعرفنا ..
وكان الثّوريّون في العالم أقلّ من خمسة آلاف صديق ..
و(رفيق) ..
وكانوا يعرفون بعضهم بعضا .. والعالم قرية صغيرة ..
قبل أن يتّسع اليوم ليشمل عوالم كثيرة جدّا .. كلّها موازية وعامّتها لا حقيقة تحته!
منذ سنوات ..
هناك ..
كانت كائنات لها اسم واحد غالبا، وعربيّ مفهوم تعرفه النّاس: أحمد وخالد ومحمّد وخديجة وعائشة وفاطمة
ثمّ فجأة صارت هناك مركّبات (فخورة بـ ) و(تاجها ...) و(عازف الـ ...) و(الغريب المفارق) ...
فإن لم تركّب فهي ممنوعة من الصّرف للعجمة .. أو لأنّ الله لم يخلق للكلام بلغتها أهلا قطّ ..
ساريفاج .. جراعيت .. سيفون .. هزيجار ..
هنا يبدو البزرميط ملائما تماما ..
واللّغة الّتي لم يخلق الله لها أهلا .. لا بدّ أن يكون لها معنى قد غضب الله على أهله ولعنهم لعنا كبيرا ..
فيكون ساريفاج صوت حفيف زهور الكنتلوس البرّي ساعة الشّفق قبل صلاة العصر للصّائم الّذي بطل صيامه بشرب المسكر
والبزرميط ما زال ملائما .. لكن ليس تماما!
منذ سنوات ..
قبل ساريفاج
كان هناك كائنات .. تحيا حياة واحدة فقط
لم تكن جميلة جدّا في الحقيقة ..
وكان فيها بعض عيوب ..
لكنّها لم تصل أبدا لأن تكون عيوبها أنّها بلا عيوب مطلقا
جميلة جدّا كأنّ (فلترًا) أخفى عيوبها
مثقّفة جدّا كأنّ (غوغلًا) يمدّها بمعلومات بلا منهج
واثقة جدّا كأنّها تجلس على خازوق (تنمية) يقال إنّها بشريّة
مرحة جدّا كأنّها صور الأخوين (جريم) القصصيّة بعد تهذيبات (ديزني)
بائسة وحزينة جدّا لأنّ القانون يحتّم أنّ الأدب مأساة أو لا يكون
ساخرة جدّا نكاتها حاضرة كالخليل .. (كوميدي) لا الفراهيدي
...
...
الخ
كائنات كانت منذ سنوات ثمّ كأن لم تكن!
ما الّذي حدث لها؟
هكذا دخلت كتاب الزّمن الكبير جوار اختفاء الدّيناصور ومثلّث برمودا وكهوف تسيلي وخطوط نازكا ونيزك التّايجا والأورورا وكلّ تلك الأشياء الّتي تحدث لا نعرف لماذا ولا كيف ولا متى تحديدا؟
ثمّ نضع ألف نظريّة مقترحة للتّفسير .. ونتسلّى بذلك أعواما
ونستمتع برهبة المجهول وغموضه والقشعريرة الّتي تغزونا عند التّفكير به بعد يوم قيظ ونسيم العشيّ يداعب الأنوف المحمرّة جهلا ..
ثمّ ننسى ..
ما أهمّيّة أن نعرف بكلّ حال؟!
كانت هناك كائنات ..
ثمّ اختفت
وفقط ..
كان قبلها كائنات أخرى اختفت ..
وسنختفي نحن بعدها أيضا ..
وسنصير حينها أجمل ممّن بعدنا وأفضل ..
ويكتبون عن أيّامنا في حسرة متوجّعة ..
أنّنا كنّا هنا ..
منذ سنوات طوال!