ينتفع المرء بالعزلة إذا خاضها مستعينًا بالله أولا، ثم عالمًا مآلاتَها، فاهمًا لنفسه مدركًا طبيعتها وخباياها، مستغنيًا بالله عن الناس، غذاؤه من داخله نابع، فلا ينتظر من يغذي نفسه من الخارج، حينها عندما ينعزل يزداد معرفة بربه ونفسه، ويدرك مواطن قصوره، ويعرف مواضع حبوره، فتتفتق الحُجُب عن أغوار نفسه، ويخرج بإبداعات ما كانت لتخرج إلا بمروره بتلك الحالة، ونرى هذا جليًا في علماء المسلمين الكبار، فالخمسة أشهر التي اعتزل فيها ابن خلدون؛ خرج منها بمقدمته التي تعتبر من نفائس النِتاجات البشرية، وكذا بن حزم رحمه الله، وأبو حامد الغزالي رحمه الله وغيرهم الكثير من العظماء، فأمثال هؤلاء يحسن في حقهم العزلة، بل هي واجبة عليهم حتى يتسنى لهم إخراج تلك الدرر، فكثرة وطول الخُلطة تُفسد القلب وتُشتت النفس وتُضيع المرء وتُذيب العقل.
أما من عَلِم في نفسه ضعفًا وعدم قدرة على مكابدة العزلة، فإنه حتمًا واقعٌ في كآبة وخواء وألم، وفرصة سانحة لتتخطفه الشياطين، فتصبح العزلة في حق هؤلاء مكروهة بل قد تصل إلى عدم الجواز لما ستؤول إليه من مفاسد عظيمة، وعليه أن يجد صحبة تعينه على إيجاد نفسه.
والقول الفاصل بين هذه الحالة وتلك، هو إدراك المقدمات وتوقع المآلات واستشراف ما هو آت، وقبلهم الاستعانة برب الأرض والسماوات..،،