كان لي جد شاعر، لطيف التعامل، كل ذريته بنات، وكانوا في زمن ماضٍ لا يملكون من مقوّمات الحياة إلا رحى واحدة لطحن الحبوب، وقربة واحدة لسقي الماء، وروح على شعث الدنيا واحدة واحدة . لم يكن لطيفًا فحسب، بل كان خفيّ اللطف لا يحس من أمامه بهذا، وهذه مرتبة عالية من اللباقة، لا يلقاها إلا ذو قلب عظيم، وروح شفافة محلّقة. ومن ذلك أن إحدى بناته كسرت الرحى الوحيدة التي يملكونها، فأتت تجر أقدامها، خجلة، مترقبة، فقالت له الخبر الذي يعده القرويون آنذاك كارثة، فابتسم وقال: "أخيرًا كُسرت ! إنها رحى قديمة، وقد كنت أنوي شراء واحدة جديدة؛ لكني لم أستطع لوجود هذه، والآن أشتريها باطمئنان".
مواقف اللطف الخفي هذه من لذائذ الحياة، تشعرني أن في الدنيا جمالًا لم يره البشر، وأن أرواحًا حولنا تنطوي على بساتين أنيقة يتضوع أريجها في المواقف دون ضجيج، أنا لا أتحدث عمن يرد التحيّة على الأطفال، أو من يبالغ في التلطف بالعمال ليبدو عند نفسه لبقًا لطيفًا، ولو لم يكن يراهم دونه ما بالغ في التلطف، فلو كانوا بعينه كسائر الناس لعاملهم كسائر الناس؛ دون مبالغة يؤول أمرها إلى إرضاء شعور داخلي جائع للظهور -ولو أمام نفسه- بمنظر اللطيف المتودد .
من يتلطف بك ظاهره كثير، لكن أين من يومض لطفه سريعًا صامتًا دون أن يشعرك بهذا، من يغيّر أمرًا اعتاده لأنك تكرهه دون أن يخبرك؛ فتكتشفه بعد مدة مصادفة، سترى هذا اللطف الخفي في تلبّس من تحب ببعض كلمات لهجتك، وبعض لزماتك اللفظية، فتراه يرددها دون أن يقول لك "ها أنذا أحبك وأحب كلماتك"، ستراه ربما في صديق اعتذرت عن موعده خجلًا منكسرًا فلا يكتفي بترك العتب؛ بل يوحي إليك أنك إن لم تعتذر كان سيعتذر لأن طارئًا ما داهمه أيضًا، فيريحك من وخز الضمير، ولا يشعرك بإحسانه .
وفي فلك التلطف، وترك العتاب، وكسر الخواطر؛ كانت سيدتي الوالدة تعاتبنا جدًا إذا بدت منا نزوة طفولية تكسر قلب من أمامنا بأي وجه؛ وتقول كلمة لا أنساها ما حييت "حِرّاق مدينة ولا كسر خاطر إمّي"
وإمي هنا -وفي لهجتها يكسرون همزها- بمعنى إنسان أي إنسان، أي إحراق مدينة أهون من كسر قلب إنسان .
مواقف اللطف الخفي هذه من لذائذ الحياة، تشعرني أن في الدنيا جمالًا لم يره البشر، وأن أرواحًا حولنا تنطوي على بساتين أنيقة يتضوع أريجها في المواقف دون ضجيج، أنا لا أتحدث عمن يرد التحيّة على الأطفال، أو من يبالغ في التلطف بالعمال ليبدو عند نفسه لبقًا لطيفًا، ولو لم يكن يراهم دونه ما بالغ في التلطف، فلو كانوا بعينه كسائر الناس لعاملهم كسائر الناس؛ دون مبالغة يؤول أمرها إلى إرضاء شعور داخلي جائع للظهور -ولو أمام نفسه- بمنظر اللطيف المتودد .
من يتلطف بك ظاهره كثير، لكن أين من يومض لطفه سريعًا صامتًا دون أن يشعرك بهذا، من يغيّر أمرًا اعتاده لأنك تكرهه دون أن يخبرك؛ فتكتشفه بعد مدة مصادفة، سترى هذا اللطف الخفي في تلبّس من تحب ببعض كلمات لهجتك، وبعض لزماتك اللفظية، فتراه يرددها دون أن يقول لك "ها أنذا أحبك وأحب كلماتك"، ستراه ربما في صديق اعتذرت عن موعده خجلًا منكسرًا فلا يكتفي بترك العتب؛ بل يوحي إليك أنك إن لم تعتذر كان سيعتذر لأن طارئًا ما داهمه أيضًا، فيريحك من وخز الضمير، ولا يشعرك بإحسانه .
وفي فلك التلطف، وترك العتاب، وكسر الخواطر؛ كانت سيدتي الوالدة تعاتبنا جدًا إذا بدت منا نزوة طفولية تكسر قلب من أمامنا بأي وجه؛ وتقول كلمة لا أنساها ما حييت "حِرّاق مدينة ولا كسر خاطر إمّي"
وإمي هنا -وفي لهجتها يكسرون همزها- بمعنى إنسان أي إنسان، أي إحراق مدينة أهون من كسر قلب إنسان .