🔸|
من خواتيم الكتب البديعة التي استوقفتني لما تضمنته من دلالات منهجية وإيمانية= خاتمة السِّفر النفيس "درء تعارض العقل والنقل" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله..
فهذه المَعْلمة المنهجية العظيمة تعد من أهم المدوّنات الفكرية المقارنة في التاريخ الإنساني -بلا مبالغة- في معالجة إحدى الإشكاليات المعرفية الكبرى، وهي علاقة الوحي بالعقل، أو إن شئت سمها :"سقف العقل". والتي أبانت عن عمق الرؤية السُنية وفطريتها في تناول أمثال هذه القضايا التي هي مداحض أقدام لكثير من العقول الكبيرة..
ولست الآن بصدد إطراء الكتاب والحفز على قراءته، وإنما أحببت أن يشاطرني المتابع تذوق هذا النص الجمالي الذي ختم به ابن تيمية مدوّنته النقدية المتراحبة المطبوعة في (١١) مجلدا، وأن يستجلي بنفسه ما فيها من دلالات عميقة :
(فقد بُيِّن أن حُذّاق الفلاسفة أيضا يثبتون أن التصديق بما جاء به الشارع لا يتوقف على شيء من الطرق الكلامية المُحدَثة، ولا شيء من طرقهم الفلسفية، وإنما غايتهم أن يقولوا: إن الطرق الفلسفية تفيد علمًا لبعض الناس، ليس مما يجب ولا يستحب لجمهور الناس، وأن ذلك العلم الخاص يخالف بعض الظاهر المعروف عند الجمهور.
ونحن نقبل من كلامهم ما أقاموا عليه الحجة الصحيحة، سواء كانت شرعية أو عقلية، فأما إذا ما قالوا ما نعلم بطلانه=رددناه...
وقد تبيّن لك أن الطوائف التي في كلامها ما يعارضون به كلام الشارع في العقليات(...) كل منهم يقول جمهور العقلاء: إن عقلياته تلك باطلة ويبينون فساد عقلياته بالعقليات الصحيحة الصريحة التي لا يمكن ردّها..
وهذا مما ينصر الله به رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، فإن الله تعالى إذا أقام لكل طائفة تعارض الرسول من جنسها مَن يبين فساد قولها المعارض له، ويكشف جهلها وتناقضها=كان بمنزلة أن يقيم لكل طائفة تريد محاربته من جنسها من يحاربها بالسلاح. ثم المؤمن المجاهد يمكنه جهاد هؤلاء، ويمكنه أن يستعين بما فعلته كل طائفة بالأخرى، فإذا أغارت طائفة على أخرى وهزمتها، أتاها من الناحية الأخرى ففتح بلادها، وإن كان هو لم يستعن بأولئك ابتداء، ولكن الله يسر بما فيه الهدى والنصر لعباده المؤمنين..وكفى بربك هاديًا ونصيرًا)