المسألة الثالثة، زعم الوليد في خصال الخوارج الثلاث: «إلزام الآخرين بنتائج تكفيرهم الاجتهادي، فكل من كفّروه أو بدّعوه اجتهادا منهم فيجب على الغير أن يوافقهم فيه، وإن خالفهم فهو كافر أو مبتدع. وهذه بلية تكفيرية عظيمة».
مضمون هذا الكلام: إلزام المخالف بخطأ الاجتهاد تكفيرا وتبديعا من خصائص الخوارج.
وحرصا على الإيجاز أقول: من الواضح جدا في الأبحاث العقدية والمقالات: أن أهل السنة لم تخالفهم طائفة من أهل القبلة إلا كفّروها أو بدّعوها على اتفاق أو اختلاف بين أهل الأثر والفقه!
ألا ترى تكفيرهم أو تبديعهم الخوارجَ وطوائفها، والقدرية وأصنافها، والمرجئة وفرقها، والجهمية وأحزابها، والمعتزلة وأذنابها، والشيعة وأخواتها.
كما تقرّر في البحث العلمي:
أن الاتفاق على الأصل قد يخفّف من رتبة الاختلاف في التفريع عليه؛ ذلك أنّ الاختلاف في الحكم على الأشخاص يرتدّ في الغالب لتحقيق المناط في المحلّ عند المكفّر أو المبدّع أخطأ أم أصاب، ولا يجوز نسبة المخطئ في التنزيل الموافق في الأصل إلى الخارجية والمروق من الدين، وإلا فما الفرق بين تكفير الشخص وتبديعه اجتهادا وبين إلزامه الموافقة في التكفير والتبديع الاجتهادي.
هذا الأمر مستفيض في أحكام العلماء على المخالف.
فمن الصحابة رضوان الله عليهم:
1- الفاروق عمر رضي الله عنه حين أكفر حاطبا بن أبي بلتعة رضي الله عنه اجتهادا.
2- ومعاذ بن جبل رضي الله عنه حين ألزم الأنصاريَ الذي قطع صلاته التكفير والتنفيق.
3- وأسيد بن حضير رضي الله عنه حيث ألزم ابن عبادة الموافقة على قتل وتكفير ابن سلول وإلا فسعد بن عبادة منافق يجادل عن المنافقين في اجتهاد أسيد.
بناء على زعم (الوليد) فالصحابي (أسيد بن حضير) فيه خصلة خارجية وبلية عظمية حيث ألزم سعدا الموافقة على تكفيره الاجتهادي وإلا فهو منافق كافر.
4- وقتل أسامة بن زيد رضي الله عنه الرجل الذي أسلم متأولاً وهو نتيجة تكفير اجتهادي.
5- وخالد بن الوليد رضي الله عنه استباح دماء بني جذيمة نتيجة تكفير اجتهادي وهو إبقاء للأصل مع الانتقال عنه في ظاهر الشرع.
6- وبعض الصحابة رضوان الله عليهم ألزم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه تكفيرا اجتهاديا.
قال سعد رضي الله عنه: «كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث، عهد بالجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فلقيته فأخبرته فقال: «قل لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات، وتعوذ من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن شمالك ثلاث مرات ولا تعد له».
7- وكفّر أو نفّق بعض الصحابة مالك بن الدخشن رضي الله عنه باجتهاده في تأليف المنافقين ومصاحبتهم لذلك.
8- وأبو بكر نفيع بن الحارث رضي الله عنه حين ألزم زياد بن أبيه وأمراءه الكفر ودخول النار، وألزم أنسا والبصري الموافقة.
قال الحسن البصري رحمه الله: «مرّ بي أنس بن مالك وقد بعثه زياد إلى أبي بكرة يعاتبه فانطلقت معه فدخلنا على الشيخ وهو مريض فأبلغه عنه؛ فقال: إنه يقول: ألم استعمل عبيد الله على فارس؟ ألم استعمل ورّادا على دار الرزق؟ ألم استعمل عبد الرحمن على الديوان وبيت المال؟ فقال أبو بكرة رضي الله عنه: هل زاد على أن أدخلهم النار؟
فقال أنس: إني لا أعلمه إلا مجتهدا.
قال الشيخ (أبو بكرة): أقعدوني، فقال: قلتَ: إني لا أعلمه إلا مجتهدا! وأهل حروراء قد اجتهدوا فأصابوا أم أخطأوا؟ قال أنس: فرجعنا مخصومين».
وفي رواية: «نشدتك بالله لما حدثتني عن أهل النهر أكانوا مجتهدين؟
قال: نعم.
قال: فأصابوا أم أخطأوا؟ قال: هو ذاك».
أخرجها صالح بن أحمد في مسائله (874) والخطيب في التاريخ (8/580-582) وابن عساكر (62/217، 218، 219) من طريقين عن أبي بكرة، أحدهما صحيح والأخر حسن. وانظر: وتهذيب الكمال (30/7) وسير أعلام النبلاء (3/8-9).
يعني: وماذا استحقوا باجتهادهم الذي أخطأوا فيه؟
الخوارج شرّ الخلق والخليقة مع اجتهادهم! وشرّ قتلى تحت أديم السماء.
والنار المستحقة بالعمل لزياد نار كفر عند أبي بكرة كما في حديث أبي عثمان النهدي:
«كنت خليلا لابي بكرة، فقال لي: أيرى الناس أني إنما عتبت على هؤلاء للدنيا، وقد استعملوا عبيد الله – يعني ابنه -على فارس، واستعملوا روّاداً – يعني ابنه -على دار الرِّزق، واستعملوا عبد الرحمن – يعني ابنه – على الديوان وبيت المال، أفليس في هؤلاء دنيا؟ كلا، والله، إني إنما عتبت عليهم لأنهم كفروا صراحا».
تاريخ ابن أبي خيثمة (4191)، تاريخ دمشق (62/216-217)، تهذيب الكمال (30/7) هذيب تهذيب الكمال (9/238)، سير أعلام النبلاء (3/8-9).