إذن ما الذي يتبقى من التقدم الليبرالي والاشتراكي المزعوم، يتساءل باريتو؟ لا شيء تقريبا، نظرا لأن التاريخ سيظل دورة أبدية كونية دائمة، بغالبيها ومغلوبيها، وأبطالها وجلاديها الذين يتبادلون الأدوار، إذ يئنون ويشتكون حين يكونون في موقع ضعف، ويظلمون الأضعف منهم حين يكونون في موقع قوة. فعند باريتو، لا يفهم الناس غير لغة الخوف. ويضيف بتهكمه المعتاد: «هناك بعض الناس الذين يتخيلون أن بوسعهم تجريد العدو من سلاحه عبر الإطراء المتلطف، لكنهم مخطئون. فالعالم كان وما يزال ملكا للأقوى، وسيظل كذلك لأعوام لا تحصى. فالرجال لا يحترمون إلا من يفرض احترامه عليهم. وكل من يصبح حملا سيجد الذئب الذي يأكله».
في نظر باريتو، فإن الأمم والإمبراطوريات والدول لا تموت جراء الفتوحات الخارجية بل بالانتحار حصرا. فحين تصبح أي أمة، حزب، طبقة أو عرق شديدة التفكك أو الفساد – وهو ما يبدو أنه بلاء يحل بكل جماعة – فإن أمة، حزبا، طبقة أو عرقا آخر أقوى سيظهر إلى السطح ويكسب الجموع، بغض النظر عن منفعة أو صلاحية اللاهوت أو الإيديولوجيا السياسية الجديدة:
[ إن السمة التي تصاحب معظم الوقت تداعي أرستقراطية ما هي انتشار المشاعر الإنسانية و ‹البكائيات› المرهفة التي تجعلها عاجزة عن الدفاع عن مواقفها. ينبغي علينا ألا نخلط بين العنف والقوة. فالعنف عادة ما يرافق الضعف. يمكننا أن نشاهد أفرادا وطبقات، ما أن تفقد القوة اللازمة لبقائها في السلطة، فإنها تصبح أشد وأشد بشاعة عبر اللجوء إلى العنف الأعمى. أما الرجل القوي فلا يضرب إلا حين يكون الأمر ضروريا – وعندئذ لن يوقفه شيء. كان تراجان قويا وليس بعنيف؛ أما كاليغولا فكان عنيفا وليس بالقوي. ]
سيلتجئ الضعفاء والمسحوقون دوما إلى حس العدالة لدى من يحكمونهم، ولكن ما أن يمسكوا هم بزمام السلطة حتى يبلغوا ما بلغه حكامهم السابقون من الاضطهاد. كما أنه لو أبدت أمة ما بعض الأمارات على إفراط في الإنسانية، الإحسان، أو المساواة، فإنه عرض يقيني لإصابتها بداء قاتل. وسرعان ما سيظهر فاعل سياسي آخر يملك ما يكفي من الرجولة والقوة لإقناع الجموع بأن الحياة ممكنة بنفس القدر في ظل صنف آخر من ‹العدالة›:
[ أعرف أن أحدهم سيردّ عليّ بأن المسيحيين أيضا نادوا بالحرية حين كانوا مضطهدين، لكنهم ما أن وصلوا إلى السلطة فقد أذاقوا الوثنيين طعم الاضطهاد. واليوم ينادي الاشتراكيون المخلصون بالحرية لأنهم يتعرضون للاضطهاد، ولكنهم لو وصلوا إلى السلطة غدا، فهل سيذيقوننا إياه…؟ يكمن الأمل في صندوق باندورا وحده. ولا نملك غير التسرية عن أنفسنا بالفرضيات، لأن الواقع كالح جدا. ]
-- توميسلاف سونيتش، «ضد الديمقراطية والمساواة»