في حديث التاج السبكي في كتابه معيد النعم ومبيد النقم عن الحال الذي ينبغي أن يكون عليه العالم، من ترك التودد إلى أصحاب الجاه والسلطان لما فيه، من جملة ما فيه، من الذل والصغار؛ أورد أبيات الجرجاني العالية، التي جاء فيها:
إذا قيل هذا منهل، قلت قد أرى
ولكن نفس الحر تحتمل الظما!
فيا للنفوس الحرة .. تحتمل الظمأ وتصبر على الشقاء في سبيل مطلوبها إن تبدت أنياب المنّة وأسبابها في غيرها من السبل، وإن كانت أيسر وأقرب، إباءً وعزة..
وأنت إذا قلّبت طرفك في تقريرات الفقهاء وأقوالهم وجدت هذا المعنى في لحاظهم، فبنوا من الأحكام، رفعا وإلزاما، معتبرين المنة وضررها عليه.. فقرر الحنابلة، مثلا: أن من وجبت عليه الصلاة وتعذر عليه الماء إلا باستقراضه واتهابه؛ لم يلزمه، لما في ذلك من المنة، بل له أن يتيمم، وقد علمت أن التيمم رخصة لا عزيمة يعدل إليها في أحوال.. وإنما قالوا هذا لأصل قد استقر في قلوب المؤمنين واستحكم، أبان عنه نبينا ﷺ في مبايعته الصحابة رضوان الله عليهم إذ قال فيها:(…ولا تسألوا الناس شيئا)..فما كان إلا أن شهد الراوي بحالهم تسليما وامتثالا فقال بعد تمام الرواية: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا يناوله إياه!
وليس الأمر قاصرا على المسألة التي ذكرت، بل أشار فقهاؤنا كذلك، مستحضرين كرامة المؤمن التي كان حفظها حقيقا بالاعتبار، إلى أن نفقة اللقيط إن تعذر تحصيلها من بيت المال ولم يكن معه شيء؛ كان على الحاكم الاقتراض على بيت المال، وإن كان من متبرع له يستطيع العدول إليه، "لأنه أمكن الإنفاق عليه بلا منة تلحقه"!
وقد يطول المقام إن تتبع باحث الأدلة التي تفيد منزلة حفظ المرء ماء وجهه وكرامته، وصونه عن كل ذل وصغار، وقد رأيت الفقهاء وصنيعهم.. فكيف يكون للمؤمن بعدُ أن يريق كرامته أمام عتبة خسائس الدنيا وحقائرها؟ وقد كان..
هذا، وقد قرأت نصا لعلي عزت تراءى لي أن نقله هنا يعين الناظر في تصوره ويبين له سبيله، قال فيه:"كيف يمكن للمرء أن يحقق كرامته الإنسانية من دون أن يصبح متكبرا في الوقت ذاته؟ الإجابة: في الإخلاص لله -تعالى- فهو مثال العدل والخير الأسمى.. فالإخلاص شعور بالكرامة لم يتحوّل إلى كبْر، حيث يكون الخضوع لله وحده، لا لأحد غيره (فلا تخشوا الناس واخشون).. إن الإخلاص لله ينسج مع الكرامة الإنسانية، وبغير هذه العبودية ستتحول الكرامة الإنسانية إلى كبر محرم لا تحمد عقباه."
—-
وبالمناسبة، اقترح الشيخ الميمان في شرحه المفيد على الروض أن يقوم باحث بجمع صنيع الفقهاء المشابه لما ذكرت ويدرسه في رسالة..
إذا قيل هذا منهل، قلت قد أرى
ولكن نفس الحر تحتمل الظما!
فيا للنفوس الحرة .. تحتمل الظمأ وتصبر على الشقاء في سبيل مطلوبها إن تبدت أنياب المنّة وأسبابها في غيرها من السبل، وإن كانت أيسر وأقرب، إباءً وعزة..
وأنت إذا قلّبت طرفك في تقريرات الفقهاء وأقوالهم وجدت هذا المعنى في لحاظهم، فبنوا من الأحكام، رفعا وإلزاما، معتبرين المنة وضررها عليه.. فقرر الحنابلة، مثلا: أن من وجبت عليه الصلاة وتعذر عليه الماء إلا باستقراضه واتهابه؛ لم يلزمه، لما في ذلك من المنة، بل له أن يتيمم، وقد علمت أن التيمم رخصة لا عزيمة يعدل إليها في أحوال.. وإنما قالوا هذا لأصل قد استقر في قلوب المؤمنين واستحكم، أبان عنه نبينا ﷺ في مبايعته الصحابة رضوان الله عليهم إذ قال فيها:(…ولا تسألوا الناس شيئا)..فما كان إلا أن شهد الراوي بحالهم تسليما وامتثالا فقال بعد تمام الرواية: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا يناوله إياه!
وليس الأمر قاصرا على المسألة التي ذكرت، بل أشار فقهاؤنا كذلك، مستحضرين كرامة المؤمن التي كان حفظها حقيقا بالاعتبار، إلى أن نفقة اللقيط إن تعذر تحصيلها من بيت المال ولم يكن معه شيء؛ كان على الحاكم الاقتراض على بيت المال، وإن كان من متبرع له يستطيع العدول إليه، "لأنه أمكن الإنفاق عليه بلا منة تلحقه"!
وقد يطول المقام إن تتبع باحث الأدلة التي تفيد منزلة حفظ المرء ماء وجهه وكرامته، وصونه عن كل ذل وصغار، وقد رأيت الفقهاء وصنيعهم.. فكيف يكون للمؤمن بعدُ أن يريق كرامته أمام عتبة خسائس الدنيا وحقائرها؟ وقد كان..
هذا، وقد قرأت نصا لعلي عزت تراءى لي أن نقله هنا يعين الناظر في تصوره ويبين له سبيله، قال فيه:"كيف يمكن للمرء أن يحقق كرامته الإنسانية من دون أن يصبح متكبرا في الوقت ذاته؟ الإجابة: في الإخلاص لله -تعالى- فهو مثال العدل والخير الأسمى.. فالإخلاص شعور بالكرامة لم يتحوّل إلى كبْر، حيث يكون الخضوع لله وحده، لا لأحد غيره (فلا تخشوا الناس واخشون).. إن الإخلاص لله ينسج مع الكرامة الإنسانية، وبغير هذه العبودية ستتحول الكرامة الإنسانية إلى كبر محرم لا تحمد عقباه."
—-
وبالمناسبة، اقترح الشيخ الميمان في شرحه المفيد على الروض أن يقوم باحث بجمع صنيع الفقهاء المشابه لما ذكرت ويدرسه في رسالة..