وُلدتُ على هَذهِ الدُنيا بلِّسانٍ غير طَليق، فما زادنِي ذلك إلا نُفوراً من الواقِع وهُروباً من سخافاتٍ لم تكُن إلا لتَشتسيط غَضبي وتَستزيد في وَجمي..
أنَا مَالِك، عُمرِي ثلاثةً وعَشرون عاماً، أُعاني من اضطراباتٍ نَفسية وأعتنقُ الوحدة مُنذ الأزل؛ فليسَ لي أيُّة معرِفة بوقت وُلوجها في داخِلي! تواريتُ عن الدراسة حتى تملّصتُ عنها -مؤقتاً- كَما أن تلكّؤ لِّساني قد زاد حتى أفقدني قُدرتي في الكلام، وذلك إثر فاجِعتي بموت صديقي الأوحد كَريم، وحدهُ من اقتلع حُزناً أورثهُ فيّ أقربائي ومرضي الحائل بيني وبين الحَياة لأعيش كأي طِفلٍ عادي كُنتُ حِينها ابن الخَامِسة بداية تَجرُّعي كأس العَياء، حيث لم أكُن قد تمكنتُ من التحدُّث، ما أثَار قلق والدتِي عليّ، زُرتُ في تلك الأيّام التي توالت حتى صارت أشهُراً العديد من المُستشفيات وعيادات الأطباء المُختصين، عُبوراً بمُستوصفاتٍ خاصّة تُدرب على النُطق، كانت تظنُ عائلتي أن إصابتي مَوقُوتة وبمُرور العُمر سأُصبح أكثر فصاحةً، لكن المُفاجأة حلّت؛ فقد عبرتُ الثامِنة ولا زلتُ ذا لِّسانٍ ركيك ولَعثمة مُتواصلة، رفضتُ آنذاك ذهابي للمدرسة كما فعلتُ بمركز تدريبي إلا أن أُمّي أصرّت على أن أواصل دراستي بينما أتوقف عن التدريب خلال الفترة القادمة، فرَضختُ موافِقاً..
مُعاناتي بدأت بُؤرتها من المنزل، فقد أحسستُ بأنّي مُختلفٌ بأحاديثي عن إخوتي وذلك بسبب مُقارناتهُم الدائمة وتشبيهاتهم المُثيرة للسُخرية بغرض الضَحك حسب قَولهم، لكنها كانت تُقلل من شأني عَلى الدَوام، لذلك حَذر التَعامُل معهم، فقد كان في ظنّي أنّي إن لم أُسبب المشاكل فلن أحصُل على تلك الجُرعات الساحِقة لطمأنينيتي، إلا إن اعتِقادي كان خائباً فدائرةُ الضاحكين تَّتسعُ أكثر فأكثَر! فترةً بعد أُخرى تهاونت أُمّي عن سَعيها في مُحاولات شِفائي، وبدوري كُنتُ أخسرُ -غير راغِب- صداقاتٍ كُنتُ أُشارك بها لتتِّم كُل ما أملك، هذهِ الحالة أعدمتنِي إيَّاي! جعلتني أدنُو للأسفل حتى كِدتُ أصلُ للحَضيض؛ فطِفلٌ كأنا لم يكُن ليفهم مَعنى ذلك الاختِلاف ولم يكُن ليعترف بأتعاب والدايّ التي بُذلت لأجل إيجاد عِلاجٍ وحلّ، لم أكُن لأطرح وأتجاوب مَعهم، كان الأمر صَعباً على طِفل! وقد أخذ جُهوداً نَفسيةً وجَسديةً وعقليةً أيضاً..
كُنتُ أدعُو الله باكياً راجياً أن يُقوِّم لِّساني، ويُنزل عَليه فَصاحةً يَتعجب لهَا كُل الأقرباء، كُنتُ أُعاود جَلساتي بذاك المَركز وكان يبلغ الجِدّ مني مَبلغه، لكن حصادي كان فراغاً فعَزِمتُ عَلى الصَبر لنيل الأجر، طال سَيري وأوشكت طَاقتي أن تُفنى، حتى سَمعتُ أُختي تَتهامسُ مع ابْنة خالي أن أَبي تَلقى اتِّصالاً من مُدربي أن ما أفعلُه يَذهب سُدى لاستِحالة نَجاحي فيه، وكُل ما عليّ هُو تَقبُل الأمر!! حينها أردتُ استِفهاماً أكثر وأعمق، أردتُ نفياً يُؤكد العكس تَماماً، رُبما في ذلك اليَوم عانقتُ الوحدة واتّخذتُ الصَمت ليكتظ بِه وَقتي..
بينمَا كُنتُ أعيشُ أيّاماً هادئة تخلو من الضَجّةِ والكَلام، واستسلام أبِي وأُمّي في مُحاولة رُجوعي لأتكلم لكيلا أُصبح أبْكماً فعلى حسب رؤيتهم لستُ ناقصاً ذلك، إلا أنّي لم أُبالي ولم يُزعزع لي وَتد، وأستمررتُ على وَضعي الذي اخترتهُ عندما اختار لي الله ما لم أرغب به، حتى تلاقت وجهاتُنا وتجاورت دفاتُرنا التي أوصلت أرواحنا بِبعضها، شَاءت الأيّام أن تُسلي عَليّ وتَمسح قَلبي بِبلسمٍ يُشفي، أهدتنِي رَفيقاً اسْمُه كَريم كان أبْكماً، وجههُ بَشوش ولهُ رُوحٌ خفيفة فَطينة، بدأ هُو بالمُبادرة وكَتب مُتسائلاً عن اسْمي، أجبتُه باختِصار، لكنني تفاجأتُ حينما كتبَ لي اسْمه! بعدها تكررت زياراتُه لي وأحاديثُه الظريفة، حتى بدأتُ أُشاركه أحاديثي أيضاً ثُم طعامي وصداقتي؛ لقد كان أول شخص لم يسخر منِي أو ينعتنِي بأنّي لستُ قوِيم اللِّسان، لقد أضاف لحياتي الخاوية بعض الإثارة وأنبت فيّ مرحاً وفرحاً وأنساني ذاك التَرح، كان يَمسح أدمُعي ويأخُذ بيديّ، معهُ اعتدتُ على حالتي، فلم يكُن يُشعرُني باختلافي ونُقصي، ولم يكُن ينعتنِي بما أكره، لقد كان لطيفاً ليسَ لأن به عَاهة، بل لأنهُ يُؤمن أننا كُلنا بَشراً وكُلنا لله، إضافةً إلى أنّهُ تمكن من تعليمِي لُّغة الإشارة؛ فقد كان يَسيراً أن أتظاهر بكونِي أبْكماً على أن أستمر بتلك الحالة التي تعسّر عليّ تقبُّلها، لكن كَريم كان يُرغمني أن أتحدث فمن رأيه أن صّوتي وإن كان لا يَسمعه يُرسل إليه هديراً جميلاً! رُبما كانت هذه طَريقتُه في تعزيز ثِقتي وإظهار ابتِسامتي، لقد عِشتُ معهُ خَمسة أعوام لم أشهد لهَا مَثِيل ولن أرى بَعدها سّلاماً أبداً؛ فلا الدُنيا سُتنجب لي كَريماً مِثلهُ ولن أجرؤ على أن أحيا حَياةً غادرها من كان يُحيي لي حَياتي، لقد غَدت أيّامي دُونهُ وجعاً! فَليت مَوتي كان يوم مَوتهُ وليتَ قَبري جَاور قَبرهُ..
'خُلُود.
أنَا مَالِك، عُمرِي ثلاثةً وعَشرون عاماً، أُعاني من اضطراباتٍ نَفسية وأعتنقُ الوحدة مُنذ الأزل؛ فليسَ لي أيُّة معرِفة بوقت وُلوجها في داخِلي! تواريتُ عن الدراسة حتى تملّصتُ عنها -مؤقتاً- كَما أن تلكّؤ لِّساني قد زاد حتى أفقدني قُدرتي في الكلام، وذلك إثر فاجِعتي بموت صديقي الأوحد كَريم، وحدهُ من اقتلع حُزناً أورثهُ فيّ أقربائي ومرضي الحائل بيني وبين الحَياة لأعيش كأي طِفلٍ عادي كُنتُ حِينها ابن الخَامِسة بداية تَجرُّعي كأس العَياء، حيث لم أكُن قد تمكنتُ من التحدُّث، ما أثَار قلق والدتِي عليّ، زُرتُ في تلك الأيّام التي توالت حتى صارت أشهُراً العديد من المُستشفيات وعيادات الأطباء المُختصين، عُبوراً بمُستوصفاتٍ خاصّة تُدرب على النُطق، كانت تظنُ عائلتي أن إصابتي مَوقُوتة وبمُرور العُمر سأُصبح أكثر فصاحةً، لكن المُفاجأة حلّت؛ فقد عبرتُ الثامِنة ولا زلتُ ذا لِّسانٍ ركيك ولَعثمة مُتواصلة، رفضتُ آنذاك ذهابي للمدرسة كما فعلتُ بمركز تدريبي إلا أن أُمّي أصرّت على أن أواصل دراستي بينما أتوقف عن التدريب خلال الفترة القادمة، فرَضختُ موافِقاً..
مُعاناتي بدأت بُؤرتها من المنزل، فقد أحسستُ بأنّي مُختلفٌ بأحاديثي عن إخوتي وذلك بسبب مُقارناتهُم الدائمة وتشبيهاتهم المُثيرة للسُخرية بغرض الضَحك حسب قَولهم، لكنها كانت تُقلل من شأني عَلى الدَوام، لذلك حَذر التَعامُل معهم، فقد كان في ظنّي أنّي إن لم أُسبب المشاكل فلن أحصُل على تلك الجُرعات الساحِقة لطمأنينيتي، إلا إن اعتِقادي كان خائباً فدائرةُ الضاحكين تَّتسعُ أكثر فأكثَر! فترةً بعد أُخرى تهاونت أُمّي عن سَعيها في مُحاولات شِفائي، وبدوري كُنتُ أخسرُ -غير راغِب- صداقاتٍ كُنتُ أُشارك بها لتتِّم كُل ما أملك، هذهِ الحالة أعدمتنِي إيَّاي! جعلتني أدنُو للأسفل حتى كِدتُ أصلُ للحَضيض؛ فطِفلٌ كأنا لم يكُن ليفهم مَعنى ذلك الاختِلاف ولم يكُن ليعترف بأتعاب والدايّ التي بُذلت لأجل إيجاد عِلاجٍ وحلّ، لم أكُن لأطرح وأتجاوب مَعهم، كان الأمر صَعباً على طِفل! وقد أخذ جُهوداً نَفسيةً وجَسديةً وعقليةً أيضاً..
كُنتُ أدعُو الله باكياً راجياً أن يُقوِّم لِّساني، ويُنزل عَليه فَصاحةً يَتعجب لهَا كُل الأقرباء، كُنتُ أُعاود جَلساتي بذاك المَركز وكان يبلغ الجِدّ مني مَبلغه، لكن حصادي كان فراغاً فعَزِمتُ عَلى الصَبر لنيل الأجر، طال سَيري وأوشكت طَاقتي أن تُفنى، حتى سَمعتُ أُختي تَتهامسُ مع ابْنة خالي أن أَبي تَلقى اتِّصالاً من مُدربي أن ما أفعلُه يَذهب سُدى لاستِحالة نَجاحي فيه، وكُل ما عليّ هُو تَقبُل الأمر!! حينها أردتُ استِفهاماً أكثر وأعمق، أردتُ نفياً يُؤكد العكس تَماماً، رُبما في ذلك اليَوم عانقتُ الوحدة واتّخذتُ الصَمت ليكتظ بِه وَقتي..
بينمَا كُنتُ أعيشُ أيّاماً هادئة تخلو من الضَجّةِ والكَلام، واستسلام أبِي وأُمّي في مُحاولة رُجوعي لأتكلم لكيلا أُصبح أبْكماً فعلى حسب رؤيتهم لستُ ناقصاً ذلك، إلا أنّي لم أُبالي ولم يُزعزع لي وَتد، وأستمررتُ على وَضعي الذي اخترتهُ عندما اختار لي الله ما لم أرغب به، حتى تلاقت وجهاتُنا وتجاورت دفاتُرنا التي أوصلت أرواحنا بِبعضها، شَاءت الأيّام أن تُسلي عَليّ وتَمسح قَلبي بِبلسمٍ يُشفي، أهدتنِي رَفيقاً اسْمُه كَريم كان أبْكماً، وجههُ بَشوش ولهُ رُوحٌ خفيفة فَطينة، بدأ هُو بالمُبادرة وكَتب مُتسائلاً عن اسْمي، أجبتُه باختِصار، لكنني تفاجأتُ حينما كتبَ لي اسْمه! بعدها تكررت زياراتُه لي وأحاديثُه الظريفة، حتى بدأتُ أُشاركه أحاديثي أيضاً ثُم طعامي وصداقتي؛ لقد كان أول شخص لم يسخر منِي أو ينعتنِي بأنّي لستُ قوِيم اللِّسان، لقد أضاف لحياتي الخاوية بعض الإثارة وأنبت فيّ مرحاً وفرحاً وأنساني ذاك التَرح، كان يَمسح أدمُعي ويأخُذ بيديّ، معهُ اعتدتُ على حالتي، فلم يكُن يُشعرُني باختلافي ونُقصي، ولم يكُن ينعتنِي بما أكره، لقد كان لطيفاً ليسَ لأن به عَاهة، بل لأنهُ يُؤمن أننا كُلنا بَشراً وكُلنا لله، إضافةً إلى أنّهُ تمكن من تعليمِي لُّغة الإشارة؛ فقد كان يَسيراً أن أتظاهر بكونِي أبْكماً على أن أستمر بتلك الحالة التي تعسّر عليّ تقبُّلها، لكن كَريم كان يُرغمني أن أتحدث فمن رأيه أن صّوتي وإن كان لا يَسمعه يُرسل إليه هديراً جميلاً! رُبما كانت هذه طَريقتُه في تعزيز ثِقتي وإظهار ابتِسامتي، لقد عِشتُ معهُ خَمسة أعوام لم أشهد لهَا مَثِيل ولن أرى بَعدها سّلاماً أبداً؛ فلا الدُنيا سُتنجب لي كَريماً مِثلهُ ولن أجرؤ على أن أحيا حَياةً غادرها من كان يُحيي لي حَياتي، لقد غَدت أيّامي دُونهُ وجعاً! فَليت مَوتي كان يوم مَوتهُ وليتَ قَبري جَاور قَبرهُ..
'خُلُود.