الحياء والإيمان
___
(١)
كم كان يثير انتباهي ذلك الارتباط بين الحياء والإيمان، وأثر كل منهما في الآخر، والذي يتجلى في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحياء والإيمان قُرنا جميعا، فإذا رُفع أحدهما رفع الآخر"..
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان".
وكنت أتساءل عن الكيفية: كيف يكون الحياء شعبة من الإيمان وهو طبع؟ كيف تؤثر طباع المرء في إيمانه؟
يقول ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: "فإن قيل: الحياء من الغرائز، فكيف جُعل شعبة من الإيمان؟ أجيب بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلّقا، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا ولكونه باعثا على فعل الطاعة وحاجزا عن فعل المعصية. ولا يقال: ربَّ حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير؛ لأن ذلك ليس شرعيا. فإن قيل: لمَ أفرد بالذكر هنا؟ أجيب بأنه كالداعي إلى باقي الشعَب؛ إذ الحييُّ يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر. والله الموفق" اهـ
وكم في كلامه رحمه الله من فوائد، خطر لي منها:
- تمام رحمة الله سبحانه بعباده، فإنه لا يكلفهم إلا ما يطيقون.
- أن الثواب الأخروي يكون بأخصّ من الصفة الجبلية المحمودة، وذلك بالحدود التي حدّها الشرع لها، فمن منعته صفة وإن كانت محمودة في أصلها أو حثت الشريعة عليها من فعل واجب أو ترك محرّم، فليست شرعية على هذا الوجه، كمن تدفعه شجاعته إلى الجور، أو من تدعوه رحمته إلى تضييع الحقوق التي أمر الله بحفظها، وكذلك حال من منعه حياؤه من فعل طاعة أو دفعه لاقتراف محرم، فليس هذا حياء شرعيا ولا هو من الإيمان، ولذلك قال أنه يحتاج إلى علم.
- أن من لم يكن الحياء من جبلّته فهو مطالب باكتساب القدر الشرعي منه، ولا يقال أنه ليس من طبيعته، فعليه أن يقف عند حدود الله في عباداته ومعاملاته، وأن يحجب نفسه عن قول القبيح وفعله.. ولذلك قال أنه يحتاج إلى اكتساب.
- أن من كان حياؤه من الناس فقط فهو معرّض للمذمة والهلاك، لأن الناس إذا كانوا مفسدين فسيتابعهم على باطلهم، ولهذا قال أنه يحتاج إلى نية.
وهكذا يظهر أن البواعث النفسية على الفعل والترك من أعظم المؤثرات في مصير الإنسان، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أن أوجد فينا هذه البواعث، كالخوف والرجاء والحياء والحب والرحمة والغيرة وغيرها..
وإذا عرفنا أن الحياء هو "خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق"، ظهر لنا أنه من أصول اكتساب الخيرات، لأن من اجتنب القبيح وامتنع من التقصير في الحقوق فاز، ولعل لهذا ارتباطا بقوله عليه الصلاة والسلام: "الحياء كله خير".. فهو باعث على فعل الخير ومؤدٍّ إليه وناه عن فعل الشر ومباعد عنه، فكان في تعاهد الحياء تعاهدا للإيمان، وفي تعاهد الإيمان اعتبارا لخلُق الحياء.. فمن وجد بحيائه بأسا فليراجع إيمانه.
ولعل هذا الخلق العظيم من أهم ما ينبغي العناية به معرفة وممارسة في هذا الزمن.. الزمن الذي تخرج فيه أضغان النفوس من خلف الشاشات، ويتبارى فيه كثير من المسلمين في أنديتهم بالصفاقة دون نكير..
بيد أن في معنى الحياء بهاء زائدا عن مجرد البعث على الفعل أو الترك..
إنه منحى الجمال الذي لا تحدّه التعريفات، وتقصر عنه الملموسات.. فالحياء يبعث على فعل الحسن وترك القبيح بعثا (جميلا)، يوقعك في حب صاحبه مع أول إيماءة تحدثها كلمةُ مدح تقدَّم إليه، أو أول رعدة خدٍّ جراء فعل غريب يشهده، أو أول انتفاضة مع بذاءة تثار بين يديه..
ولهذا كان من الطبيعي أن يرتبط الحياء بأحد أقطاب الجمال في الحياة الدنيا كافة.. أعني أن يرتبط بالمرأة!
فمع أن الحياء من أعظم الأخلاق للرجال والنساء على السواء، ومع أنه لا يتعارض مع القوة أو المعرفة أو الشجاعة كما يتوهم كثير من الناس، إلا أنه يرتبط بالإناث ارتباطا وثيقا تاريخيا وشرعيا ويضرب فيه بهنّ المثل..
وما أعظم وصف أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه"كان أشد حياء من العذراء في خدرها، إذا كره شيئا عرفناه في وجهه"..
فإنه لما أراد وصفه بأكمل الحياء وأجمله اختار هذا المثال.
فالمرأة بوصفها رمزا للجمال تكون أولى بهذا الخلق الرفيع من الرجل، كما أن الرجل بوصفه حاملا لقوة الجسم يكون أولى بخلق الشجاعة من المرأة.. وتكون المرأة التي قلّ حياؤها أسوأ حالا من الرجل قليل الحياء، وإن اشتركا في السوء. كما يكون الرجل الجبان أسوأ حالا من المرأة الجبانة وإن اشتركا في السوء..
___
(١)
كم كان يثير انتباهي ذلك الارتباط بين الحياء والإيمان، وأثر كل منهما في الآخر، والذي يتجلى في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحياء والإيمان قُرنا جميعا، فإذا رُفع أحدهما رفع الآخر"..
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان".
وكنت أتساءل عن الكيفية: كيف يكون الحياء شعبة من الإيمان وهو طبع؟ كيف تؤثر طباع المرء في إيمانه؟
يقول ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: "فإن قيل: الحياء من الغرائز، فكيف جُعل شعبة من الإيمان؟ أجيب بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلّقا، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا ولكونه باعثا على فعل الطاعة وحاجزا عن فعل المعصية. ولا يقال: ربَّ حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير؛ لأن ذلك ليس شرعيا. فإن قيل: لمَ أفرد بالذكر هنا؟ أجيب بأنه كالداعي إلى باقي الشعَب؛ إذ الحييُّ يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر. والله الموفق" اهـ
وكم في كلامه رحمه الله من فوائد، خطر لي منها:
- تمام رحمة الله سبحانه بعباده، فإنه لا يكلفهم إلا ما يطيقون.
- أن الثواب الأخروي يكون بأخصّ من الصفة الجبلية المحمودة، وذلك بالحدود التي حدّها الشرع لها، فمن منعته صفة وإن كانت محمودة في أصلها أو حثت الشريعة عليها من فعل واجب أو ترك محرّم، فليست شرعية على هذا الوجه، كمن تدفعه شجاعته إلى الجور، أو من تدعوه رحمته إلى تضييع الحقوق التي أمر الله بحفظها، وكذلك حال من منعه حياؤه من فعل طاعة أو دفعه لاقتراف محرم، فليس هذا حياء شرعيا ولا هو من الإيمان، ولذلك قال أنه يحتاج إلى علم.
- أن من لم يكن الحياء من جبلّته فهو مطالب باكتساب القدر الشرعي منه، ولا يقال أنه ليس من طبيعته، فعليه أن يقف عند حدود الله في عباداته ومعاملاته، وأن يحجب نفسه عن قول القبيح وفعله.. ولذلك قال أنه يحتاج إلى اكتساب.
- أن من كان حياؤه من الناس فقط فهو معرّض للمذمة والهلاك، لأن الناس إذا كانوا مفسدين فسيتابعهم على باطلهم، ولهذا قال أنه يحتاج إلى نية.
وهكذا يظهر أن البواعث النفسية على الفعل والترك من أعظم المؤثرات في مصير الإنسان، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أن أوجد فينا هذه البواعث، كالخوف والرجاء والحياء والحب والرحمة والغيرة وغيرها..
وإذا عرفنا أن الحياء هو "خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق"، ظهر لنا أنه من أصول اكتساب الخيرات، لأن من اجتنب القبيح وامتنع من التقصير في الحقوق فاز، ولعل لهذا ارتباطا بقوله عليه الصلاة والسلام: "الحياء كله خير".. فهو باعث على فعل الخير ومؤدٍّ إليه وناه عن فعل الشر ومباعد عنه، فكان في تعاهد الحياء تعاهدا للإيمان، وفي تعاهد الإيمان اعتبارا لخلُق الحياء.. فمن وجد بحيائه بأسا فليراجع إيمانه.
ولعل هذا الخلق العظيم من أهم ما ينبغي العناية به معرفة وممارسة في هذا الزمن.. الزمن الذي تخرج فيه أضغان النفوس من خلف الشاشات، ويتبارى فيه كثير من المسلمين في أنديتهم بالصفاقة دون نكير..
بيد أن في معنى الحياء بهاء زائدا عن مجرد البعث على الفعل أو الترك..
إنه منحى الجمال الذي لا تحدّه التعريفات، وتقصر عنه الملموسات.. فالحياء يبعث على فعل الحسن وترك القبيح بعثا (جميلا)، يوقعك في حب صاحبه مع أول إيماءة تحدثها كلمةُ مدح تقدَّم إليه، أو أول رعدة خدٍّ جراء فعل غريب يشهده، أو أول انتفاضة مع بذاءة تثار بين يديه..
ولهذا كان من الطبيعي أن يرتبط الحياء بأحد أقطاب الجمال في الحياة الدنيا كافة.. أعني أن يرتبط بالمرأة!
فمع أن الحياء من أعظم الأخلاق للرجال والنساء على السواء، ومع أنه لا يتعارض مع القوة أو المعرفة أو الشجاعة كما يتوهم كثير من الناس، إلا أنه يرتبط بالإناث ارتباطا وثيقا تاريخيا وشرعيا ويضرب فيه بهنّ المثل..
وما أعظم وصف أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه"كان أشد حياء من العذراء في خدرها، إذا كره شيئا عرفناه في وجهه"..
فإنه لما أراد وصفه بأكمل الحياء وأجمله اختار هذا المثال.
فالمرأة بوصفها رمزا للجمال تكون أولى بهذا الخلق الرفيع من الرجل، كما أن الرجل بوصفه حاملا لقوة الجسم يكون أولى بخلق الشجاعة من المرأة.. وتكون المرأة التي قلّ حياؤها أسوأ حالا من الرجل قليل الحياء، وإن اشتركا في السوء. كما يكون الرجل الجبان أسوأ حالا من المرأة الجبانة وإن اشتركا في السوء..