ذكر البديع في (مقاماته) حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت في بعض مطارح الغربة مجتازاً, فإذا أنا برجل يقول لآخر: بمَ أدركتَ العلم؟ وهو يجيبه فقال: طلبته فوجدته بعيد المرام, لا يُصاد بالسهام, ولا يُقسم بالأزلام, ولا يُرى في المنام, ولا يُضبط باللجام, ولا يورث عن الأعمام, ولا يُستعار من الكرام, فتوسلت إليه بافتراش المدر, واستناد الحجر, وردّ الضجر, وركوب الخطر, وإدمان السهر, واصطحاب السفر, وكثرة النظر, وإعمال الفكر, فوجدته شيئاً لا يصلح إلا للغرس, ولا يُغرس إلا في النفس, وصيداً لا يقع إلا في الندْر, وطائراً لا يخدعه إلا قنصُ اللفظ, ولا يعلقه إلا شركُ الحفظ, فحملته على الروح, وحسبته على العين, وأنفقت من العيش, وخزنت من القلب, وحرّرت بالدرس, واسترحت من النظر إلى التحقيق, ومن التحقيق إلى التعليق, واستعنت في ذلك بالتوفيق, فسمعت من الكلام ما فتق السمع, ووصل إلى القلب, وتغلغل في الصدر, فقلت: يا فتى ومن أين مطلع هذه الشمس؟ فجعل يقول:
إسكندرية داري...لو قرّ فيها قراري
لكنّ بالشام ليلي...وبالعراق نهاري
إسكندرية داري...لو قرّ فيها قراري
لكنّ بالشام ليلي...وبالعراق نهاري