كيف استفادت الدولة العباسية من تاريخ التجارب الفاشلة للحركات السابقة؟.. وكيف استطاعت عبر قراءة التاريخ تنفيذ مشروعها بنجاح؟.. هذا درس يجب أن يستوعبه مؤسسوا الدول والدعوات
استوعبت الثورة العباسية دروس التاريخ القريب، فكم من ثورة قامت ضد الأمويين لم تنجح في الوصول إلى أهدافها! لكنَّ العباسيين تمكَّنوا من تجنب أسباب الفشل في هذه الحركات جميعًا.
1- انحراف الأفكار والعقائد
فقد خلت الدعوة العباسية من الأفكار المنحرفة عن الخط الإسلامي، تلك الأفكار التي كانت تنفر الكثيرين من الانضمام إلى الحركة؛ على ما لها من شعارات جاذبة ودور في مقاومة المظالم القائمة آنذاك، لقد كانت الأفكار المنحرفة من أسباب فشل ثورة المختار بن أبي عبيد الثقفي؛ الذي نادى بإمامة محمد بن الحنفية بعد الحسن والحسين، وفي سبيل دعوته هذه زعم أنه يعلم الغيب، وأن الوحي يأتيه، وأن جبريل يجالسه، ثم عظَّم كرسيًّا خشبيًّا وزعم «أن فيه سرًّا» وأنه مثل تابوت بني إسرائيل، ثم ختم ضلالاته بادعاء أن محمد بن الحنفية لم يمت وأنه سيظهر مرة أخرى.
2- التسرع في الخروج
بينما كان العلويون الأكثر في مجال المعارضة السياسية منذ أن قامت الدولة الأموية؛ فإنهم تكشفوا للعيان قبل أن تنضج ثمرة المعارضة، مما مَكَّن سلطة الخلافة الأموية من الإجهاز على كل حركة أو تمرُّد علوي، وكان حصاد ذلك آلاف القتلى وآلاف المعتقلين؛ ممن أُلِّفت بشأنهم المصادر تحت عنوان «مقاتل الطالبيين»؛ حتى قال الإمام الزهري ما يُشبه أن يكون قاعدة مريرة: «أهلك أهل هذا البيت العجلة». وهذا على خلاف العباسيين الذين آثروا الاختفاء بدعوتهم إلى وقت مناسب.
في سائر الثورات الماضية يكاد لا يوجد وقت بين الرغبة في الخروج وبين الخروج الفعلي، ما إن تنقدح الفكرة في الذهن ويبدو أن ثمة أتباعًا وأنصارا حتى يتم التحرك للثورة.. ولقد اضطرد هذا منذ ثورة الحسين بن علي (رضي الله عنهما) وحتى ثورة حفيده زيد بن علي؛ التي تعد آخر الثورات في عهد القوة لبني أمية.. بينما سنجد العباسيين قد أمضوا ثلث قرن في الترتيب والاستعداد المنظم الهادئ، لم تُغْرهم لحظة ضعف عابرة للأمويين فتخرجهم عن خطتهم المنتظمة، ولم تُغرهم ثورة أخرى بدا وكأنها ستنتصر؛ فسارعوا يريدون الإفادة منها والإمساك بزمامها؛ بل ظلُّوا على حالهم من الترقب والاستعداد، فربما تدخَّلُوا ببعض المساندة في ثورة عبد الله بن معاوية؛ لكنهم ظلُّوا بعيدًا عن زعامتها الظاهرة؛ فاستطاعوا النجاة حين فشلت الثورة.
ويلاحظ بعض المؤرِّخين أن الدعوة العباسية عبر نحو ثلاثين سنة (100 - 129هـ) كانت تنشط إذا خلا الجو من رؤساء علويين، وتضعف إذا ظهر منهم أحد.
لقد كان خروجُ العباسيين خروجَ من استكمل العدة؛ حتى قال يحيى بن نعيم داعيًا إلى التحالف بين اليمانية ونصر بن سيار: «إن هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شهر، وقد صار في عسكره مثل عسكركم».. وبمثل هذا الأسلوب نجحت الثورة العباسية.
3- اختيار الرجال
لم يكن اختيار كبار الدعاة أو النقباء اختيارًا عشوائيًّا، وإنما كان يتم بين أصحاب القدرات الأخلاقية والثقافية والدبلوماسية، وهي صفات لازمة للحوار والإقناع، ثم كان أغلب هؤلاء يتم اختياره من بين اليمانية وقادتهم ومواليهم من الفرس، واليمانية على خلاف مع بني أمية الذين فَضَّلوا الاعتماد على القيسيين في آخر دولتهم.
والحق أن رجال الدعوة العباسية كانوا على مستوى المهمَّة، منذ سلمة بن بجير، مرورًا ببكير بن ماهان، وأبي سلمة الخلال، وأبي عكرمة السراج، وسليمان بن كثير، وأبي مسلم الخراساني، وقحطبة بن شبيب.. وغيرهم ممن رأى ثمرة الدولة بعد جهاده في الدعوة.. لقد ضربوا أمثلة في الإخلاص للدعوة والصبر والثبات وتحمل المشاق في سبيلها، وأمثلة في الكفاءة والانتباه وحسن الإدارة والتنظيم والتخطيط.
إن كل دعوة تحتاج أمثال هؤلاء الرجال؛ لكي تنهض بهم وعلى أكتافهم، ولو أن أحدًا من زعماء الثورات السابقة اطلع على الغيب لما تمنى أكثر من أن يكون في ركابه رجال كهؤلاء، لا سيما أولئك الذين خرجوا وأتباعهم كثير؛ فلما فاجأتهم الخطوب قُتِلوا وما معهم إلا قليل.
4- تجربة رائدة
لقد كانت تجربة الثورة العباسية في إنشاء التنظيم السري القائم على عقيدة دينية تجربة رائدة، نجحت في إزالة دولة وإقامة دولة؛ ولذا ظلت هذه الطريقة نهجًا متبعًا لكثير من الحركات والتنظيمات فيما بعد، فكثيرون أولئك الذين حاولوا إنشاء الدول بهذه الطريقة؛ سواء أكانوا علويين أو غيرهم، وسواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، ولا نبالغ إن قلنا: إن نحو ثلث الثورات التي واجهها العباسيون كانت لتنظيمات سرية تقوم على مفاهيم دينية، وأشهر من نجحوا في ذلك: الدولة العبيدية (الفاطمية) فيما بعد، كما أن العلويين هم أشهر من فشلت تنظيماتهم، وثمة قوم نجحوا حتى صاروا شوكة هائلة لفترة طويلة كالقرامطة والباطنية؛ غير أنهم لم يصلوا إلى مرحلة الدولة!
استوعبت الثورة العباسية دروس التاريخ القريب، فكم من ثورة قامت ضد الأمويين لم تنجح في الوصول إلى أهدافها! لكنَّ العباسيين تمكَّنوا من تجنب أسباب الفشل في هذه الحركات جميعًا.
1- انحراف الأفكار والعقائد
فقد خلت الدعوة العباسية من الأفكار المنحرفة عن الخط الإسلامي، تلك الأفكار التي كانت تنفر الكثيرين من الانضمام إلى الحركة؛ على ما لها من شعارات جاذبة ودور في مقاومة المظالم القائمة آنذاك، لقد كانت الأفكار المنحرفة من أسباب فشل ثورة المختار بن أبي عبيد الثقفي؛ الذي نادى بإمامة محمد بن الحنفية بعد الحسن والحسين، وفي سبيل دعوته هذه زعم أنه يعلم الغيب، وأن الوحي يأتيه، وأن جبريل يجالسه، ثم عظَّم كرسيًّا خشبيًّا وزعم «أن فيه سرًّا» وأنه مثل تابوت بني إسرائيل، ثم ختم ضلالاته بادعاء أن محمد بن الحنفية لم يمت وأنه سيظهر مرة أخرى.
2- التسرع في الخروج
بينما كان العلويون الأكثر في مجال المعارضة السياسية منذ أن قامت الدولة الأموية؛ فإنهم تكشفوا للعيان قبل أن تنضج ثمرة المعارضة، مما مَكَّن سلطة الخلافة الأموية من الإجهاز على كل حركة أو تمرُّد علوي، وكان حصاد ذلك آلاف القتلى وآلاف المعتقلين؛ ممن أُلِّفت بشأنهم المصادر تحت عنوان «مقاتل الطالبيين»؛ حتى قال الإمام الزهري ما يُشبه أن يكون قاعدة مريرة: «أهلك أهل هذا البيت العجلة». وهذا على خلاف العباسيين الذين آثروا الاختفاء بدعوتهم إلى وقت مناسب.
في سائر الثورات الماضية يكاد لا يوجد وقت بين الرغبة في الخروج وبين الخروج الفعلي، ما إن تنقدح الفكرة في الذهن ويبدو أن ثمة أتباعًا وأنصارا حتى يتم التحرك للثورة.. ولقد اضطرد هذا منذ ثورة الحسين بن علي (رضي الله عنهما) وحتى ثورة حفيده زيد بن علي؛ التي تعد آخر الثورات في عهد القوة لبني أمية.. بينما سنجد العباسيين قد أمضوا ثلث قرن في الترتيب والاستعداد المنظم الهادئ، لم تُغْرهم لحظة ضعف عابرة للأمويين فتخرجهم عن خطتهم المنتظمة، ولم تُغرهم ثورة أخرى بدا وكأنها ستنتصر؛ فسارعوا يريدون الإفادة منها والإمساك بزمامها؛ بل ظلُّوا على حالهم من الترقب والاستعداد، فربما تدخَّلُوا ببعض المساندة في ثورة عبد الله بن معاوية؛ لكنهم ظلُّوا بعيدًا عن زعامتها الظاهرة؛ فاستطاعوا النجاة حين فشلت الثورة.
ويلاحظ بعض المؤرِّخين أن الدعوة العباسية عبر نحو ثلاثين سنة (100 - 129هـ) كانت تنشط إذا خلا الجو من رؤساء علويين، وتضعف إذا ظهر منهم أحد.
لقد كان خروجُ العباسيين خروجَ من استكمل العدة؛ حتى قال يحيى بن نعيم داعيًا إلى التحالف بين اليمانية ونصر بن سيار: «إن هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شهر، وقد صار في عسكره مثل عسكركم».. وبمثل هذا الأسلوب نجحت الثورة العباسية.
3- اختيار الرجال
لم يكن اختيار كبار الدعاة أو النقباء اختيارًا عشوائيًّا، وإنما كان يتم بين أصحاب القدرات الأخلاقية والثقافية والدبلوماسية، وهي صفات لازمة للحوار والإقناع، ثم كان أغلب هؤلاء يتم اختياره من بين اليمانية وقادتهم ومواليهم من الفرس، واليمانية على خلاف مع بني أمية الذين فَضَّلوا الاعتماد على القيسيين في آخر دولتهم.
والحق أن رجال الدعوة العباسية كانوا على مستوى المهمَّة، منذ سلمة بن بجير، مرورًا ببكير بن ماهان، وأبي سلمة الخلال، وأبي عكرمة السراج، وسليمان بن كثير، وأبي مسلم الخراساني، وقحطبة بن شبيب.. وغيرهم ممن رأى ثمرة الدولة بعد جهاده في الدعوة.. لقد ضربوا أمثلة في الإخلاص للدعوة والصبر والثبات وتحمل المشاق في سبيلها، وأمثلة في الكفاءة والانتباه وحسن الإدارة والتنظيم والتخطيط.
إن كل دعوة تحتاج أمثال هؤلاء الرجال؛ لكي تنهض بهم وعلى أكتافهم، ولو أن أحدًا من زعماء الثورات السابقة اطلع على الغيب لما تمنى أكثر من أن يكون في ركابه رجال كهؤلاء، لا سيما أولئك الذين خرجوا وأتباعهم كثير؛ فلما فاجأتهم الخطوب قُتِلوا وما معهم إلا قليل.
4- تجربة رائدة
لقد كانت تجربة الثورة العباسية في إنشاء التنظيم السري القائم على عقيدة دينية تجربة رائدة، نجحت في إزالة دولة وإقامة دولة؛ ولذا ظلت هذه الطريقة نهجًا متبعًا لكثير من الحركات والتنظيمات فيما بعد، فكثيرون أولئك الذين حاولوا إنشاء الدول بهذه الطريقة؛ سواء أكانوا علويين أو غيرهم، وسواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، ولا نبالغ إن قلنا: إن نحو ثلث الثورات التي واجهها العباسيون كانت لتنظيمات سرية تقوم على مفاهيم دينية، وأشهر من نجحوا في ذلك: الدولة العبيدية (الفاطمية) فيما بعد، كما أن العلويين هم أشهر من فشلت تنظيماتهم، وثمة قوم نجحوا حتى صاروا شوكة هائلة لفترة طويلة كالقرامطة والباطنية؛ غير أنهم لم يصلوا إلى مرحلة الدولة!